أقسام الحديث باعتبار حال الراوي عند الفريقين

أقسام الحديث باعتبار حال الراوي عند الفريقين

ذكر لخبر الواحد عدّة تقسيمات استوعبتها كتب الدراية وعلم المصطلح، والذي يهمّنا في هذا المقام هو الإطلالة السريعة على أقسام الحديث باعتبار حال الراوي، إذ بمعرفة المقبول منها والمردود يمكن لنا التكهّن بأسباب اعتبار بعض الشروط التي متى ما اتصف بها الراوي يقبل خبره.

أقسام الحديث عند أهل السنة

ينقسم الحديث عند أهل السنّة إلى (صحيح، وحسن، وضعيف)، وأوّل من عرف أنه قسّمه بهذه الأقسام هو الترمذي (ت279هـ)(1)، وأمّا من قبله من العلماء فلم يعرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، وإنّما كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، وأما الحسن عندهم فكان تابعاً لأحد القسمين فهو إمّا نوع من الضعيف إذ الضعيف عندهم نوعان إما ضعيف ضعفاً لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفاً يوجب تركه(2)، وإما نوع من الصحيح كما ينقل الذهبي عن البخاري ومسلم(3)، ولنأت إلى بيان الأقسام فنقول:

الحديث الصحيح:

وهو في اصطلاحهم قسمان:

الحديث الصحيح لذاته: الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علّة قادحة(4).

وقيل كان من الأفضل لو قالوا بنقل الثقة بدل قولهم العدل الضابط، لأن الثقة هو من جمع العدالة والضبط والتعاريف تصان عن الإسهاب(5).

ومرادهم من الشذوذ المأخوذ عدمه شرطاً لصحة الخبر هو أن لا يكون الخبر مخالفاً لما رواه الثقاة(6).

وأما العلّة القادحة أن يتبين بعد البحث في الحديث سبب يقدح في قبوله مع أن ظاهر الحديث السلامة. بأن يتبين أنه منقطع، أو موقوف، أو أن الراوي فاسق، أو سيِّئ الحفظ، أو مبتدع والحديث يقوي بدعته، ونحو ذلك؛ فلا يحكم للحديث بالصحة حينئذٍ؛ لعدم سلامته من العلة القادحة(7). واحترز بالقادحة عن العلّة غير القادحة كما لو أبدل في السند الثقة بالثقة فإن هذا لا يضر(8).

والإنصاف أن يقال إنه لا ينبغي إدراج خلو الحديث من الشذوذ والإعلال في حد الصحيح، وذلك لأن المراد من تعريف أقسام الحديث هو تعريفها بلحاظ صفات الراوي التي إذا ما توفرت أطلق على الخبر مصطلح الصحيح بغض النظر عن متن الخبر والعمل به من ناحية إثباتية، فمن الواضح أن اشتراط أن لا يكون الحديث شاذاً إنما هو شرط في اعتبار الخبر لا في تسميته صحيحاً(9)، ولعل إصرارهم على إضافة قيد (من غير شذوذ) لإخراج الأحاديث التي توافق معتقد الشيعة وإن صحت(10)، وكذا الحال بالنسبة لقيد الخلو من العلة فإنه إذا لم تتوفر صفات القبول في السند فلا يطلق عليه مصطلح الصحيح حتى لو توهمنا بادئ ذي بدئ أنه صحيح، ولذا نجد بأن بعض من عرّف الصحيح لم يذكر الخلو من الشذوذ والعلّة في تعريفه(11).

واشترط البخاري في الصحيح ثبوت السماع لكل راوٍ من شيخه(12)، ولم يكتف بإمكان اللقاء والمعاصرة فهو لا يرى تحقق اتصال السند بين راويين حتَّى يثبت اللقاء، والسماع بينهما، فإِذا ثبت، ولو مرة كفى ذلك عنده لاتصال السند، ما لم يكن الراوي موصوفاً بالتدليس، فإِذا كان مدلساً فلا يقبل حديثه إِلَّا إِذَا صرح بالسماع. وقد بالغ البخاري في تحقيق هذا الشرط في صحيحه. والبخاري لم يفصح عن شرطه قطّ، إنما استنتج العلماء شرطه من تصرفه في صحيحه ومن تاريخه الكبير، وأول من صرّح بشرط البخاري هو القاضي عياض(13).

وأما مسلم فقد اكتفى بمجرد المعاصرة مع إمكان اللقيا، وقد شنّع مسلم في مقدمة كتابه على منهج شيخه البخاري في الحديث الصحيح بل وصم هذا المنهج بأنه جهل بمذاهب السلف في هذه المسألة، حيث قال في مقدمة صحيحه: «وهذا القول يرحمك الله في الطعن في الأسانيد قول مخترع، مستحدث غير مسبوق صاحبه إِليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أَنَّ القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر  واحد، وإن لم يأت في خبر  قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة. إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبداً حتى تكون الدلالة على ما بينا»(14).

الحديث الصحيح لغيره: "وهو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه. وإنما سمِّي صحيحاً لغيره، لأنه لو نظر إلى كل طريق بانفراد لم يبلغ رتبة الصحة، فلما نظر إلى مجموعهما قوي حتى بلغها"(15).

حكمه: أجمع العلماءُ من أهل السنّة على أنَّ الحديث الصحيح بقسميه حجّة، فيجب العمل به بتصديقه إن كان خبراً، وتطبيقه إن كان طلباً(16) إلا أنهم ومع اتفاقِهم على وجوبِ العملِ بالحديثِ الصحيحِ الأحاديِّ في أحكامِ الحلالِ والحرامِ فقدِ اختلفوا في إثباتِ العقائدَ ووجوبِها بهِ، ومنشأ الخلاف في ذلك هو اختلافهم في أن خبر الواحد الثقة هل يفيد القطع أم الظن؟ فمن قال أنه يفيد القطع واليقين قال بحجيته في العقيدة ومن قال أنه لا يفيد إلا الظن المتلقى بالتصديق لم يعمل بمؤداه في العقيدة وفصّل ثالث فقبل الصحيح في فروع العقيدة دون أصولها فلا تثبت أصول العقيدة إلا بالتواتر(17).

الحديث الحسن:

وهو أيضاً عندهم على قسمين:

الحديث الحسن لذاته: وهو لا يخلو عند علماء أهل السنة من اضطراب وتشويش ولذا قال ابن دقيق العيد: "في تحقيق معناه اضطراب"(18)، وعزا ابن كثير هذا الاضطراب إلى أن الحديث الحسن: "ما كان وسطاً بين الصحيح والضعيف، في نظر الناظر، لا في نفس الأمر، عسر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة، وذلك لأنه أمر نسبي، شيء ينقدح عند الحافظ، ربما تقصر عبارته عنه"(19)، إلا أن أغلب من حدّه عرفه بأنه ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه عن درجة الصحيح عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة(20)، فليس بينه وبين الصحيح لذاته فرق سوى اشتراط تمام الضبط في الصحيح، فالحسن دونه(21).

الحديث الحسن لغيره: وهو الضعيف إذا تعددت طرقه على وجه يجبر بعضها بعضاً، بحيث لا يكون فيها كذاب، ولا متهم بالكذب، وإنما سمي حسناً لغيره؛ لأنه لو نظر إلى كل طريق بانفراده لم يبلغ رتبة الحسن، فلما نظر إلى مجموع طرقه قوي حتى بلغها(22).

يقول ناصر الدين الألباني: "وإن مما ينبغى ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره، وكذا الحسن لذاته من أدق علوم الحديث وأصعبها، لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته، ما بين موثق ومضعف، فلا يتمكن من التوفيق بينها، أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من عمره، مستفيدا من كتب التخريجات ونقد الأئمة النقاد عارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب قل من يصير له، وينال ثمرته، فلا جرم أن صار هذا العلم غريبا من العلماء والله يختص بفضله من يشاء"(23).

حكمه: الحديث الحسن بقسميه حجة عند جماهير علماء أهل السنّة وإن كان دون الصحيح في القوة، أما الحسن لنفسه فلأنه قد عرف صدق راويه وسلامة انتقاله بالسند، وخفة الضبط كما لا تخرجه عن الأهلية للأداء كما سمع، لأن المقصود أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه، وأما الحسن لغيره فهو وإن كان في الأصل ضعيف لكنه قد انجبر وتقوَّى بوروده من طريق آخر، مع سلامته من أن يعارضه شيء، وتحصل بالمجموع قوة تدل على أنه ضبط الحديث، وحسن الظن براويه أنه حفظه وأداه كما سمعه، لذلك سمي الحديث حسنا(24).

الحديث الضعيف:

وهو كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول بأن خلا عن شروط الصحيح والحسن(25).

قال البيقوني(26):

وكل ما عن رتبة الحسن قصر     فهو الضعيف وهو أقسام كثر

وذكروا أن الحديث الضعيف لمّا كان مردوداً فلا حاجة إلى تقسيمه، لأنه لا ترجيح بين أفراده(27).

حكمه: اتفقوا على رد الحديث الضعيف وعدم حجيته في الأحكام، فلا يجوز اعتباره دليلاً، بل ولا ذكره غير مقرون ببيان ضعفه(28)، ولم يخالف في ذلك إلا أحمد بن حنبل وأبو داوود، حيث يرى أحمد بن حنبل أن العمل بالحديث الضعيف أولى من القياس وآراء الرجال، يقول الحافظ السخاوي: "أبو داوود يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وهو أقوى عنده من رأي الرجال وهو تابع في ذلك شيخه الإمام أحمد فقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه غل، والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي، قال: فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل؟ قال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي"(29).

نعم ذهب جمهور أهل السنة إلى إمكان الأخذ بالحديث الضعيف في روايات الفضائل وفي الترغيب والترهيب؛ فقد سهّل في ذِكْره بشرط أن لا يكون الضعف شديداً وأن يندرج تحت أصل عام معمول به من أصول الشريعة وأنْ لا يعتقدَ عندَ العملِ به ثبوتَه، لئلا ينسب إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) ما لم يقله، وعلى هذا فيكون فائدة ذكره في الترغيب: حث النفس على العمل المرغب فيه، لرجاء حصول ذلك الثواب، ثم إن حصل وإلا لم يضره اجتهاده في العبادة، ولم يفته الثواب الأصلي المرتب على القيام بالمأمور. وفائدة ذكره في الترهيب تنفير النفس عن العمل المرهب عنه للخوف من وقوع ذلك العقاب، ولا يضره إذا اجتنبه ولم يقع العقاب المذكور(30).

أقسام الحديث عند الشيعة الإمامية

استقر تقسيم الحديث عند المتأخرين من علماء الإمامية إلى أربعة أقسام (الصحيح، الحسن، الموثّق، الضعيف)، وهو تقسيم بلحاظ أحوال الرواة المشتهر بالتقسيم الرباعي للحديث، بعد أن لم يكن التقسيم عند القدماء معروفاً بهذا اللحاظ، إذ كان القدماء يقسمونه إلى (صحيح، ضعيف)، فالصحيح عندهم ما احتف بقرائن تفيد القطع، أو الوثوق بصدوره عن المعصوم (عليه السلام) حتى وإن كان راويه ضعيفاً، ككون الحديث موجوداً في أصل من الأصول الحديثية المعتمدة وغيرها من القرائن(31)، وأما الضعيف فهو الذي لم يعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه من القرائن الموجبة للوثوق به والركون إليه حتى وإن كان راويه عدلاً(32)، فلمّا بعدت المدّة عن زمن النص خفيت القرائن المحتفة بالأخبار وهذا ما استوجب أن يحدث المتأخرون التقسيم الرباعي للحديث القائم على أساس أحوال رواة السند يقول الشيخ حسن بن الشهيد الثاني: "فإن القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعاً لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف... فلم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التميز باصطلاح أو غيره، فلما اندرست تلك الآثار، واستقلت الأسانيد بالأخبار اضطر المتأخرون إلى تمييز الخالي من الريب، وتعيين البعيد عن الشك، فاصطلحوا على ما قدمنا بيانه..."(33)، واختلف العلماء في محدث التقسيم الرباعي للحديث، فذهب الشيخ البهائي والفيض الكاشاني إلى أن أول من اصطلحه هو العلامة الحلي(ت726هـ)(34)، وذهب الشيخ حسن بن الشهيد الثاني أن محدثه هو السيد جمال الدين أحمد بن طاووس(35)(ت673هـ)، وتبعه تلميذه العلامة الحلي(36)، أما المحدّث البحراني فقد ردد في كلامه بين العلامة وشيخه ابن طاووس(37)، والمهم أن هذا التقسيم قد ظهر في القرن السابع الهجري عندما أصبحت الحلّة مركزاً علمياً هاماً حيث ألفت آنذاك عدة من الكتب في حقول معرفية شتى كالفقه والأصول والحديث والرجال، وقد بالغ الأخباريون في شجب هذا التنويع للحديث وشنعوا عليه ورفضوه بشدة، بل اعتبروا أن هذا التقسيم من بدع العامة التي دخلت على الإمامية فيحرم العمل بها، وبعضهم اعتبر أن الدين انهدم بتقسيم الحديث كما انهدم يوم السقيفة(38)، وبسطوا البحث لإبطال هذا التقسيم، فاستدل المحدث البحراني على ذلك بستة وجوه اختتمها بقوله: "إلى غير ذلك من الوجوه التي أنهيناها في كتاب ( المسائل) إلى اثني عشر وجهاً، وطالب الحق المنصف تكفيه الإشارة، والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة"(39).واستدل الحر العاملي باثنين وعشرين وجهاً(40)، وسار على منوالهم الفيض الكاشاني(41).

هذا وقد حاول بعض العلماء إرجاع التقسيم الرباعي للحديث إلى كلمات القدماء، فهو أمر كان متداولاً في زمان الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي وغيرهم من القدماء وإنما وظيفة السيد ابن طاووس أو تلميذه العلامة إنما هو مجرد وضع الاصطلاح فقط(42)، وذكروا لهذه الدعوى شواهد في كلمات القدماء كقول الشيخ في العدّة: "إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء، وفرقت بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذّاب وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها"(43)، إلا أن الإنصاف أن هذا الكلام ونظائره في كلمات القدماء وإن كان دالاً على أنهم لم يغفلوا عن حال الراوي وصفاته، بل كان من أهم القرائن الموجبة للوثوق بصدور الخبر هو كون الراوي ثقة يؤمن منه الكذب عادةً(44)، إلا أنه لا يدل على التنويع الرباعي للحديث بلحاظ حال الراوي وخروج التنويع عندهم عن كونه ثنائياً.

نعم إن للتقسيم الرباعي للحديث فوائد تظهر في باب التعادل والتراجيح، فإنه مع تعارض الخبرين وعدم إمكان الجمع العرفي بينهما يلتجأ إلى ترجيح الخبر صاحب المزية -بناءً على تمامية هذا المبنى- فيرجح الخبر الصحيح على الموثق والموثق على الحسن وهكذا، كما تظهر فائدة التقسيم في باب حصول الاستفاضة والتواتر فإنه يتأثر الخبر بصفات المخبرين ونوعيتهم، وبما أن الخبر يتأثر بصفات وعدد المخبرين فبهذا التقسيم نستكشف مدى قوة صدق الخبر من ضعفه ليحصل الوثوق بصدور الخبر.

وإليك تفصيل الأقسام:

الحديث الصحيح:

عرّف علماء الإمامية الحديث الصحيح بأنه ما اتصل سنده إلى المعصوم (عليه السلام) بنقل العدل الضابط الإمامي عن مثله في جميع الطبقات وإن اعتراه شذوذ(45).

ونلاحظ أن تنصيصهم على قيد (وإن اعتراه شذوذ) تعريض بأهل السنة الذين اشترطوا خلو الحديث عن الشذوذ ليكون صحيحاً كما تقدم، إذ من الواضح أن شذوذ الخبر لا ينافي صحته بلحاظ حال الراوي، وكل ما هنالك أن متن الخبر يخالف المشهور وهذا لا يخرجه عن مسمى الصحة وإن أسقطه عن الحجية والاعتبار.

حكمه: الصحيح حجة بالاتفاق عند القائلين بحجية خبر الواحد(46)، بل هو القدر المتيقن إرادته من دليل الحجية، بشرط ألا يكون شاذاً أو معارضاً بغيره من الأخبار المعتبرة، حيث يطلب المرجّح عند التعارض(47)، وقد وقع الكلام بين العلماء في أن إعراض المشهور من الفقهاء عن العمل بالخبر الصحيح أو المعتبر هل يوجب انكسار صحة السند وبالتالي انسلاب الحجيّة عنه أو أن هذا الإعراض لا يؤثر في صحة الاعتماد عليه؟ فذهب المشهور من المتأخرين إلى أن الإعراض سالب للحجية عن الخبر، إذ لا يحصل الوثوق به مع إعراض المشهور من قدماء الأصحاب القريبين من عصر النص مع اطلاعهم عليه وظهور دلالته(48)، إلا أن صاحب الكفاية(49)، والسيد الخوئي (قدِّس سرُّه) خالفا المشهور وذهبا إلى أن الإعراض غير قادح في حجية الخبر المعتبر سنداً إذ إن إطلاقات أدلة حجية خبر الثقة شاملة لهذا الفرض، نعم لو حصل هجران وتسالم العلماء على الإعراض فإن ذلك يوجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر وإن كان صحيحاً فلا يصح التعويل عليه حينئذٍ(50).

الحديث الحسن:

وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم (عليه السلام) بإمامي ممدوح من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه أو في بعضها، مع كون الباقي من رجال الصحيح(51).

وقد قيّد العلامة المامقاني تعريف الحسن بكون المدح مقبولاً معتداً به احترازاً عن مطلق المدح، فإن المدح تارة ًيكون له دخل في قوة السند وصدق القول، مثل: صالح، خيّر.. ونحوهما. وتارة يكون له دخل في المتن لا في السند، مثل: فهيم، حافظ... وثالثة لا يكون له دخل فيهما، مثل: شاعر، قاري...، والمقصود في تعريف الحسن هو الأول الذي يكون له دخل في السند(52).

واحترزوا بقيد (مع كون الباقي من رجال الصحيح) عمّا لو كان الباقي دون الصحيح فإن الحديث يلحق بأخس الرواة في السند وأدونهم، كما لو كان فيه ضعيف فيكون الحديث ضعيفاً لضعفه، أو كان فيه غير إمامي ثقة فيكون الحديث موثّقاً، إلا أن هذا الكلام تام بناءً على كون الموثّق أدون من الحسن، أما على القول بأن الموثّق أقوى من الحسن كما عليه أكثر المحققين المتأخرين فينبغي أن يضاف إلى تعريف الحديث الحسن (مع كون الباقي من رجال الصحيح أو الموثّق).

حكمه: قال الشهيد الثاني: "واختلفوا في العمل بالحسن، فمنهم من عمل به مطلقاً كالصحيح، وهو الشيخ على ما يظهر من عمله، وكل من اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام ولم يشترط ظهورها. ومنهم من رده مطلقاً وهم الأكثرون، حيث اشترطوا في قبول الرواية الإيمان والعدالة كما قطع به العلامة في كتبه الأصولية... وفصّل آخرون كالمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى فقبلوا الحسن إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بين الأصحاب"(53).

وقد اختار السيد الخوئي حجية الحديث الحسن وذلك لأن السيرة العقلائية قائمة على أنه لو بلغ أمر المولى إلى عبده بنقل إمامي ممدوح لم يظهر فسقه ولا عدالته، لا يكون العبد معذوراً في مخالفة أمر المولى في نظر العقلاء(54)، فيجب العمل بخبره كما يجب العمل بخبر الإمامي العادل. ولكن قد يتأمّل في هذا المعنى بملاحظة أن المدح إذا لم يكن كاشفاً عن وثاقة الراوي لا يجزم بشمول السيرة العقلائية له(55).، وعليه فالقدر المتيقن أن يكون المدح مثبتاً لوثاقة الراوي وصدقه في المقال.

الحديث الموثّق:

وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم (عليه السلام) ودخل في طريقه من ثبتت وثاقته عندنا مع فساد عقيدته -بأن كان من إحدى الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من الشيعة- وتحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح(56).

فلو اشتمل الطريق على عامّي أو شيعي لكنه ليس إمامياً اثنا عشرياً كأن كان من الواقفة أو الفطحية أو الزيدية، إلا أنه كان ثقة صدوقا ً فيطلق عليه الخبر الموثّق إن كان باقي رجال السند موثّقون أو كانوا من رجال الصحيح، وإلا لو كان باقي الطريق فيه ضعف فيكون الحديث ضعيفاً لتبعيّته للأدون، أما إن كان الباقي فيهم من رجال الحسن فيأتي فيه الخلاف المتقدم، وترجيح أن يكون من قسم الحسن لأدونيّة الحسن عن الموثق.

حكمه: ذهب جمع من العلماء إلى عدم حجيّة الحديث الموثّق وهذا قول كل من يشترط الإيمان في الراوي، إلا أن أكثر المحققين ذهبوا إلى اعتباره وكونه حجّة إذ المدار في حجية الخبر على وثاقة الراوي أو الوثوق وهي متحققة في المقام وإن كان الراوي مخالفاً.

الحديث الضعيف:

وهو ما لم تجتمع فيه شروط أحد الأقسام السابقة، بأن اشتمل طريقه على مجهول أو مجروح(57).

حكمه: الأصل في الحديث الضعيف عدم الحجيّة فلا يؤخذ به إلا أن يعتضد بما يشد عضده من القرائن الموجبة للقطع أو الوثوق به(58)، أو يجبر ضعف سنده بالشهرة، إذ قد ذهب جمهور العلماء إلى إمكان جبر سند الحديث الضعيف بالشهرة العملية، فإذا علم استناد مشهور القدماء من الفقهاء في مقام العمل والفتيا على الخبر الضعيف فيحصل الوثوق والاطمئنان بصحة الخبر، وفي مقابل ما ذهب إليه المشهور اختار بعض العلماء كالشهيد الثاني(59) والسيد الخوئي(60) والشهيد الصدر(61)، عدم الجابرية بالشهرة، إذ ضم الشهرة إلى الخبر الضعيف من باب ضم الحجر إلى الحجر إذ ما هو إلا انضمام غير الحجة إلى غير الحجة فلا يوجب الحجية، فإن انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم، ثم إن تمامية دعوى الانجبار منوط بإحراز استناد مشهور القدماء للخبر الضعيف في مقام العمل ودون ذلك خرط القتاد، وذلك لأنه ليس للمشهور كتب استدلالية يمكن التعرف بواسطتها على ما هو مستندهم في هذه الفتوى أو تلك(62)..

هذا وقد جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال ما لم يبلغ الضعف حد الوضع والاختلاق، إذ ليس في المواعظ والقصص غير محض الخير(63)، وقد شاع العمل بالضعاف في المستحبات والسنن وإن اشتد ضعفها ولم ينجبر(64)، فكثيراً ما يستدل الفقهاء بالأخبار الضعيفة على السنن والآداب ويحكمون بها بالكراهة والاستحباب، بل قال ابن فهد الحلي: "صار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين"(65)، لما اشتهر من التساهل والتسامح في أدلة السنن -بناءً على تسليم استفادة الاستحباب من روايات من بلغ وإلا فيؤتى بها بنيّة الرجاء- استناداً لمثل ما ورد في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه، كان له وإن لم يكن على ما بلغه»(66).

وينبغي التنويه إلى مسألة وهي أنه وإن كان العلماء لا يرون حجية الخبر الضعيف إلا أن هذا لا يعني طرحه من رأس والضرب به عرض الجدار، فإن الضعف في الخبر لا يساوق الدس والوضع بل هو أعم من ذلك، إذ قد ينفع الحديث الضعيف في حساب الاحتمالات للكشف عن الاستفاضة والتواتر فإن الأخبار يشدّ بعضها بعضاً فيحصل للفقيه الوثوق والاطمئنان بصدق مضمون الخبر.

***

 

* الهوامش:

(1) هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك وقيل ابن السكن السلمي أبو عيسى الترمذي، أحد الأئمة، قال الذهبي في شأنه «الحَافِظُ، العَلَمُ، الإِمَامُ، البَارِعُ، ابْنُ عِيْسَى السُّلَمِيُّ، التِّرْمِذِيُّ الضَّرِيرُ، مُصَنِّفُ (الجَامِعَ)، وَكِتَابَ (العِلَلِ)، وَغَيْرَ ذَلِكَ. اخْتُلِفَ فِيْهِ، فَقِيْلَ: وُلِدَ أَعْمَى، وَالصَّحِيْحُ أَنَّهُ أَضَرَّ فِي كِبَرِهِ، بَعْدَ رِحْلَتِهِ وَكِتَابَتِهِ العِلْمَ.» سير أعلام النبلاء ج13 ص 270، هذا وقد أنكر علماء السنة على ابن حزم الأندلسي قوله في شأنه «محمد بن عيسى بن سورة مجهول» انظر: ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب ج7 ص364.

(2) ابن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى ج18 ص25.

(3) صبحي الصالح، علوم الحديث ص141.

(4) انظر: ابن الصلاح، علوم الحديث ص10، وجلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص61، ومحمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص6.

(5) جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص61.

(6) صبحي الصالح، علوم الحديث ص196.

(7) محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص10.

(8) مصطفى العدوي، مصطلح الحديث في سؤال وجواب ص 14.

(9) الملا علي كني، توضيح المقال ص244.

(10) رضا مؤدب، علم الدراية المقارن ص51.

(11) انظر: جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص 62.

(12) وقيل أن ذلك لم يذهب أحد إلى أنه شرط الصحيح بل الأصحيّة. انظر: المصدر نفسه ج1 ص69.

(13) انظر: القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم ص307.

(14) مقدمة صحيح مسلم ج1 ص 29.

(15) محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص7.

(16) المصدر السابق ص 8.

(17) انظر: علي بن نايف الشحود، الخلاصة في أحكام الحديث الضعيف ص11.

(18) الاقتراح في بيان الاصطلاح ص191.

(19) أحمد محمد شاكر، الباعث الحثيث ص35.

(20) جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص173.

(21) محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص7.

(22) المصدر نفسه.

(23) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ج3 ص363.

(24) انظر: علي بن نايف الشحود، الخلاصة في أحكام الحديث الضعيف ص2. وجلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص 173، ومحمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص 8. وصبحي الصالح، علوم الحديث ص156.

(25) محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص8.

(26) منظومة البيقوني ص1.

(27) جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي ج1 ص60.

(28) محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص8.

(29) فتح المغيث ج1 ص 82.

(30) انظر: محمد بن صالح العثيمين، مصطلح الحديث ص 8، وعلي بن نايف الشحود، الخلاصة في أحكام الحديث الضعيف ص13.

(31) ذكر جملة من هذه القرائن الشيخ الطوسي في عدة الأصول ج1، ص143، وفي مقدمة الاستبصار ج1، ص6، والمحقق الحلي في معارج الأصول ص137، وقد عقد الحر العاملي في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل لتفصيل هذه القرائن.

(32) السيد حسن الصدر، نهاية الدراية ص115.

(33) منتقى الجمان ج1 ص14.

(34) انظر: محمد بن حسين البهائي، مشرق الشمسين ص270، والفيض الكاشاني، الوافي ج1 ص22.

(35) هو أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس العلوي الحسني (جمال الدين)، قال ابن داود» سيدنا الطاهر، الإمام المعظم، فقيه أهل البيت، جمال الدين أبو الفضائل، مات سنة 673، مصنف مجتهد، كان أورع فضلاء زمانه.. وكان شاعراً مصقعاً بليغاً منشياً مجيداً» رجال ابن داود ص6، وقال الحر العاملي «كان عالماً فاضلاً، صالحاً، زاهداً، عابداً، ورعاً، فقيهاً، محدثاً مدققاً، ثقة، شاعراً، جليل القدر، عظيم الشأن، من مشايخ العلامة وابن داود..» أمل الآمل ج2 ص29.

(36) منتقى الجمان ج1 ص14.

(37) الحدائق الناضرة ج1 ص53.

(38) نقله عن متشددي الأخبارية السيد بحر العلوم في هامش فوائده الرجالية ج1 ص257. وإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن هذا التقسيم ينتج عنه خروج جملة كبيرة من الأحاديث عن دائرة الحجية وهذا هدم للدين وتضعيف لأركانه.

(39) الحدائق الناضرة ج1 ص61.

(40) وسائل الشيعة ج30 ص252.

(41) الوافي ج1 ص24.

(42) المولى إسماعيل الخواجوئي، تعليقات مشرق الشمسين ص31 -33 نقلا ً عن: محمود درياب النجفي، نصوص الجرح والتعديل ج1 ص125، ومحمد السند، بحوث في مباني علم الرجال ص73، وعلي أكبر المازندراني، مقياس الرواية ص52.

(43) الشيخ الطوسي، عدة الأصول ج1 ص141.

(44) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج30 ص243.

(45) الشهيد الثاني، البداية في علم الدراية ص30. (بتصرف)، ولم يذكر قيد الضبط مع أنه مراد له حيث ذهب إلى أنه مستفاد من قيد العدل.

(46) خلافا ً لمن ذهب إلى عدم حجية خبر الواحد من الأساس إلا إذا كان مقروناً بما يوجب القطع بصدوره كما نسب إلى السيد المرتضى وابن إدريس الحلي.

(47) السيد محيي الدين الغريفي، قواعد الحديث ج1 ص33.

(48) محمد صنقور، المعجم الأصولي ج1 ص308.

(49) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول ص332.

(50) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول ج2 ص236 وص280.

(51) الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية ص68. (بتصرف)

(52) عبد الله المامقاني، مقباس الهداية ج1 ص134.

(53) الرعاية في علم الدراية ص73. (بتصرف)

(54) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول ج2 ص234.

(55) باقر الأيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية ص209.

(56) عبد الله المامقاني، مقباس الهداية ج1 ص138.(بتصرف)

(57) المصدر السابق ج1 ص146. (بتصرف)

(58) السيد حسن الصدر، نهاية الدراية ص267.(بتصرف)

(59) الرعاية لحال البداية ص75.

(60) مصباح الأصول ج2 ص235.

(61) بحوث في علم الأصول ج4 ص426.

(62) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول ج2 ص236.

(63) الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية ص76.

(64) السيد حسن الصدر، نهاية الدراية ص284.

(65) عدة الداعي ص10.

(66) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج2 ص87.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا