أخبار التخيير بين القصر والتمام في المواضع الأربعة المشرَّفة (القسم الأول)

أخبار التخيير بين القصر والتمام في المواضع الأربعة المشرَّفة (القسم الأول)

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلاة الحكيم على المبعوث الأمين محمد وآله الغرِّ الميامين، وله الحمد في العالمين.

فهذه مقالة مبسوطة في أخبار التخيير في الصلاة بين القصر والإتمام في المواضع الأربعة المشرفة، مكة والمدينة والكوفة والحائر، عرضنا فيها أخبار المسألة، وأشبعناها استنطاقاً، وطعَّمناها بنكاتٍ رجالية وسـندية لا يسع المقام تركها؛ إذ لاتُذكر إلا نادراً في الأبحاث المتداولة، وقد اتَّفق حضورنا بحث السيد الزنجاني (حفظه الله) هذا العام وطرحه لهذه المسألة تفصيلاً، مع إلماح الفاضل الشيخ علي الصددي -وفقه الله- لفتوى السيد بوجوب القصر موافقاً للصدوق (قدّس سرّه) من المتقدمين وللسيد الشهيد الصدر (قدّس سرّه) من المعاصرين ومخالفاً لما عليه المشهور، وباجتماع تلك الدواعي صارت النفس توَّاقةً لتحرير المسألة بأسلوبها، وهي بمعرض المشتغلين وبين أيدي الناظرين، ونسأله تعالى إخلاص النيِّة لوجهه الكريم بدءاً وختاماً.

فنقول وعليه جلَّ اسمه نتَّكل:

الأخبار في المسألة كثيرة جداً، استقصى أكثرها صاحب الحدائق (رحمه الله) في حدائقه، ولا يُمكن الاقتصار على بعضها ممَّا صحَّ سنده وإهمال الأخريات مما ضعف سنداً، أو أُجمل دلالةً، وظنَّي أنَّ جملة ممَّا أهمله القائلون بحجيَّة خبر الواحد لم ينله ما هو حقيقٌ من التحقيق، وجملة أخرى ممَّا أُهمل من الدلالات لم تُستظهر بما هو أظهر، بل كلُّها تحمل قرائن هامة، وفي أغلبها إشاراتٌ وتصريحاتٌ بما يشرح معنىً في غيرها، وسيمرُّ عليك أمثلتها.

أخبار المسألة

والأخبار في المسألة مرتبة بحسب الرواة هي:

الأوَّل: رواية حمَّاد بن عيسى (رحمه الله)، الدالَّة على أنَّ الإتمام من مخزون أو مذخور علم الله تعالى، عن أبي عبد الله (عليه السلام). وهي ما رواره الشيخ في التهذيب عن محمَّد بن أحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن مهزيار وأبي علي بن راشدٍ جميعاً عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِ اللَّهِ الإتْمَامُ فِي أَرْبَعِ مَوَاطِنَ؛ حَرَمِ اللَّهِ وَحَرَمِ رَسُولِهِ وَحَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَرَمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهم السلام)»(1).

أورده الشيخ في الزيادات من فقه الحج، دليلاً على استحباب التقصير في حرم الكوفة والحائر على ساكنيهما السلام، وعقد للتدليل على الاستحباب باباً مستقلاً في الاستبصار ألحقه بأبواب العمرة بعد الزيادات في فقه الحج(2).

ورواه الشيخ الصدوق في الخصال، قال:حدَّثنا محمَّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار قال: حدثني الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي عبد الله البرقي عن علي بن مهزيار، وأبي علي بن راشد، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام). وساقه بعينه.

قال الشيخ الحر (رحمه الله): "ورواه ابن قولويه في المزار عن العياشي، عن الصفار، عن الحسن بن علي بن النعمان"(3).

لكنَّه في المطبوع الآن -في حاشية الكتاب- بهذا النص: "زيادة وقع في النسخ هنا من تلميذ المؤلف: وزاد الحسين بن أحمد بن المغيرة عقب هذا الحديث في هذا الباب بما أخبره به حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي بإجازته بخطه باجتيازه للحج، عن أبي النَّضر محمد بن مسعود العياشي، عن علي بن محمد، قال: حدثني محمد بن أحمد، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي عبد الله البرقي وعلي بن مهزيار وأبي علي ابن راشد جميعاً، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن: حرم الله وحرم رسوله وحرم أمير المؤمنين وحرم الحسين صلوات الله عليهم أجمعين»"(4). وهذا غير ضائرٍ؛ بعد ورود هذا الخبر الصحيح في أكثر من مصدرٍ معتبرٍ.

ووقوع الصفار -وغيره في الأسانيد الأخر- في سند الشيخ الصدوق يضفي مزيد اطمئنانٍ بالخبر، قال فيه الشيخ النجاشي (رحمه الله): "كان وجهاً في أصحابنا القميِّين، ثقةً عظيم القدر، راجحاً قليل السقط في الرواية".

والحسن بن علي بن النعمان الذي يروي عنه العطار هو ابن علي بن النعمان، وقد وصفه الشيخ النجاشي بأنَّه "ثقة ثبت"، ثم قال: "له كتاب نوادر صحيح الحديث كثير الفوائد أخبرني ابن نوح عن البزوفري قال: حدثنا أحمد بن إدريس عن الصفار عنه بكتابه"(5)‏.

وأبو عبد الله البرقي هو محمد بن خالد، ووصفه بالضعف في الحديث راجع لمروياته لا لشخصه، وإلا فهو ثقةٌ جليلٌ، نُقّحت كثيراً من مرويَّاته بعد وقوعها في أيدي المحدثين بعده كما هو واضح.

والحسن بن النعمان هو الراوي للرواية عن البرقي، وهذا الأخير هو رواي الرواية عن نسختي كتاب حماد بن عيسى (رحمه الله).

شبيهاتها:

وهي بعينها الخبر 26 من هذا الباب في الوسائل، ممَّا رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الفقيه قال: قال الصادق (عليه السلام): «مِنَ الأَمْرِ الْمَذْخُورِ إِتْمَامُ الصَّلاةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَحَائِرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)»(6).

والفارق بينها وبين السابق هو في حدود محلِّ الإتمام، لكنَّها دالةٌ كالسابقة على الإتمام، بل هي عينها.

كذلك الخبر 29 من هذا الباب في الوسائل، فهو والحديث الأول والسادس والعشرون متَّحدون، وهو ما رواه الشيخ جعفر بن قولويه في المزار عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مِنَ الأَمْرِ الْمَذْخُورِ إِتْمَامُ الصَّلاةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ الْكُوفَةِ والْحَائِرِ»(7).

والإرسال فيها عن حماد غير مانع من الأخذ بها؛ إذ من لاحظ أخبار حماد وجدها بين مرفوعة ومرسلة ومسندة، وقد يقع خبر واحد بسندين متصلٍ ومرسلٍ أو مرفوعٍ كلها عنه، وقد يقع رفعٌ فيها يحسبه النَّاظر أنَّه ممَّن روى عن حريز -مثلاً- لكنَّه عن حماد لا عن حريز، رفعه ليحتاط في تحديثه بنصّ الحديث، ونسبه لغيره تورُّعاً عن عدم بذله لأهله وتخلُّصاً عن نسبته إلى نفسه، وهذا كثيرٌ، وما ذلك إلا لورع وطريقة حماد واحتياطه في نسبة قول الحديث إلى نفسه، قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) فيه: "قال: سمعت من أبي عبد الله (عليه السلام) سبعين حديثاً فلم أزل أُدخل الشك على نفسي حتى اقتصرت على هذه العشرين. وله حديث مع أبي الحسن موسى (عليه السلام) في دعائه بالحج وبلغ من صدقه أنَّه روى عن جعفر بن محمد وروى عن عبد الله بن المغيرة وعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)‏"(8)، ومن بالغ في الاحتياط فيما يعلم اتصال إسناده وصحته لورعه حتى نقل ما رواه بنفسه عن غيره كذلك، كيف يصح نقله لأخبار لا يعلم صحتها وصدق ناقلها!، والمتتبِّع لأخباره لا يجد في هذا الأمر أيَّ مبالغة، فمراسليه ومرفوعاته كمسنداته (رحمه الله).

ويؤيِّد ما ذكرنا -من الرفع- رواية حماد لكتاب الفضيل بن يسار بنقلٍ مباشرٍ كما في النجاشي(9)، مع عدم وجود رواية في الكتب الأربعة يرويها حماد عن الفضيل بغير واسطةٍ، فلاحظ، والقرائن على هذه الدعوى كثيرةٌ.

وكون الإتمام في هذه المواطن الأربعة المشرفة من مخزون علم الله أو من الأمر المذخور يدل على كون فضله أمراً مستوراً إلا عن الخاصة -شبيهاً بما ورد في فضل قضاء صلاة الليل بعد الغداة أو العصر الذي عُبِّر عنه بأنَّه: «من سر آل محمد (صلّى الله عليه وآله) المخزون»(10)- محتملاً للتقية، موجباً لحمل الأخبار المعارضة عليها؛ لصراحة هذا الخبر في هذا المعنى، وعدم معارضة الأخريات له من هذه الجهة؛ إذ لا تعرض فيها -كما يمرُّ عليك- لما فيه من دلالة على الخلاف، مع أنَّ مذهب العامَّة على التقصير وكونها كباقي البلدان، وهو مذهب أبي حنيفة فقيههم في الكوفة، ومالك فقيههم في المدينة.

قال الصدوق في الخصال بعدها: "قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): يعني أن ينوي الإنسان في حرمهم (عليهم السلام) مقام عشرة أيام ويتمَّ ولا ينوي مقام دون عشرة أيام فيقصر، وليس ما يقوله غير أهل الاستبصار بشيء: أنّه يتمُّ في هذه المواضع على كل حالٍ"(11).

وقال في الفقيه بعدها: "قال مصنِّف هذا الكتاب (رحمه الله): يعني بذلك أنَّ يعزم على مقام عشرة"(12).

ثم صدَّق كلامه برواية ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام)، ويأتي التعرض لها ولقوله (رحمه الله).

الثاني: رواية مسمع بن عبد الملك الملقب بكُردِين عن الكاظم (عليه السلام).

رواها الشيخ الكليني عن حميد بن زياد عن ابن سماعة عن غير واحد عن أبان بن عثمان عن مسمع عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: «كَانَ أَبِي يَرَى لِهَذَيْنِ الْحَرَمَيْنِ مَا لا يَرَاهُ لِغَيْرِهِمَا وَيَقُولُ: إِنَّ الإِتْمَامَ فِيهِمَا مِنَ الأَمْرِ الْمَذْخُورِ»(13).

ورواه الشيخ بإسناده إلى علي بن مهزيار عن فضالة عن أبان عن مسمع بعينه.

وفي الوسائل «أحمد بن سماعة» بدل «ابن سماعة»، وهو سهوٌ، والصحيح الحسن بن محمد بن سماعة، شيخ الواقفة المعاند في الوقف، ثقة في الحديث، وهو الذي اختصَّ الشيخ الكليني برواية كتابه عن حميد بن زياد.

فأصلها من كتاب أبان عن كتاب مسمع كما هو واضحٌ، وطريق الكليني إليه واقفي.

وسند الشيخ الكليني وإن كان ظاهره الإرسال لعبارة (عن غير واحدٍ) فيه، إلا أنَّ عدَّه كذلك مجانبٌ للصواب، وإن أصرَّ عليه المشهور؛ فبعد التسليم بأنَّ دلالتها الوضعية على كون الرواة أكثر من واحد وأنَّ القدر المتيقَّن منها هو اثنين لا أكثر فلا تخرج الرواية به عن حد الإرسال والمجهوليَّة على هذا الفرض، لكنَّ دلالتها الاستعمالية على الكثرة التي لا تحتاج الرواية معها إلى الفحص والتبيُّن لا تنكر، وحالها حال لفظ (العدة) في أسانيد الشيخ الكليني، ولا حاجة للاستدلال بحساب الاحتمال الذي ارتكبه بعض المعاصرين من العلماء لتصحيح تلك الأسانيد، وملاحظة طريقة المشايخ في الرواية وأنَّه لا يعجزهم ذكر طريقين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر يغنيك عن تكلَّف تلك الطرق كلِّها، ويكفيك فيه دلالة التعبير المستعمل ليصحَّ عندها الخبر دون استيحاش ولا استبعاد، لذا ترى أنَّه لم يطعن أصحاب الفهارس والرجال على المعروفين من الرواة والمصنِّفين الذين رووا مثل هذا، وطعن على غيرهم ممن أسند القول لمجهولٍ اسماً أو أثراً.

ودلالتها كالسابق.

ورى الشيخ (رحمه الله) بإسناده عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن صفوان عن مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قَالَ لِي: إِذَا دَخَلْتَ مَكَّةَ فَأَتِمَّ يَوْمَ تَدْخُلُ»(14).

قال الشيخ النجاشي في محمد الحسين بن أبي الخطاب (رحمه الله): "حسن التصانيف، مسكون إلى روايته".

والأمر فيها محمول على الأفضلية والاستحباب الأكيد؛ جمعاً بينها وبين ما دلَّ على التخيير، مع مرجوحية التقصير لجعله (عليه السلام) ظرف المأمور به يوم يدخل، وحمله على قصد الإقامة ينافي إطلاق الخبر ولا قرينة عليه.

الثالث: ما رواه معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وله خبران.

الأوَّل: ما رواه الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ مِنَ الْمَذْخُورِ الإِتْمَامَ فِي الْحَرَمَيْنِ»(15).

وكذا رواه الشيخ في التهذيب عن الشيخ الكليني(16).

قال الشيخ في الفهرست: "وقال محمد بن علي بن الحسين: سمعت محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله) يقول: كتب يونس التي هي بالروايات كلُّها صحيحة يُعتمد عليها، إلا ما ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد ولم يروه غيره فإنَّه لا يُعتمد عليه ولا يُفتى به"(17). ورأيه في محمد بن عيسى بن عبيد معروفٌ قابل للمناقشة.

وقد روى جمعٌ غفيرٌ عن إسماعيل بن مرار روايات كتب يونس بن عبد الرحمن، بل اعتمد على روايته عن يونسَ الشيخُ الكليني، رغم كون صالح بن السندي مشاركاً لإسماعيل بن مرار في نقل كتب يونس، لكنَّه لا يذكره إلا نادراً جداً، خلافاً لابن مرار، وكذا فعل الشيخ (رحمه الله).

والثاني: ما رواه الشيخ منفرداً بإسناده عن علي بن مهزيار عن فضالة عن معاوية بن عمَّار قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ مَكَّةَ فَأَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ قَالَ: «فَلْيُقَصِّرِ الصَّلاةَ مَا دَامَ مُحْرِماً».(18)

قال الشيخ (رحمه الله) بعدها: "قال محمد بن الحسن: الوجه الجمع بين الخبرين(19) ما قدَّمناه، من أنَّ الإتمام هو الأفضل، ويجوز التقصير"(20).

وهو بظاهره يعارض الأوَّل، لكنَّ تقييده بالإقامة على الإحرام في كلام معاوية بن عمار ثم تقييد الإمام (عليه السلام) وجوب قصر الصلاة بدوام إحرامه، يُجمل المراد، ولا يُمكن الاعتماد حينها على ظاهر الأمر بالتقصير كما هو واضحٌ، هذا فضلاً عن انفراد الشيخ بذكرها وخلوِّ بقية المصادر منها، مع تكثُّر نقل روايات فضالة عن كتاب معاوية بن عمار ومسائله في الحج في كتب الأصحاب، وإيراد هذا الخبر من الشيخ (رحمه الله) على سبيل رفع التعارض بين الأخبار الذي هو أحد أغراضه التي ذكرها في مقدمة كتابه التهذيب، فيذكر الخبر وإن كان مهجوراً بين المحدثين ليحمله على محملٍ موافقٍ فيجعل له شاهد جمع من الأخبار الأخرى.

وفي المستدرك عن بعض نسخ الفقه الرضوي (عليه السلام) قال: «قال أبي (عليهما السلام)(21): رجل قام إلى إحرامه بمكة، قصر الصلاة ما دام محرماً»(22).

وفي البحار -بتفاوت عن السابق- عن الفقه الرضوي أيضا قال: «قال أبي: رجل أقام على إحرامه بمكة قصر الصلاة ما دام محرماً، وينبغي للمتمتِّع بالعمرة إلى الحج إذا أحلَّ أن لا يلبس قميصاً، وليتشبَّه بالمحرمين وينبغي لأهل مكة أن يكونوا كذلك، وينبغي للسلطان أن يأخذهم بذلك»(23).

ولم أجدها في الفقه الرضوي المطبوع، بل لم يظفر بها الشيخ المتتبِّع المحدث البحراني (قدّس سرّه)، مع أنَّه في مقام حصر أخبار المسألة كلِّها مع مزيد اهتمامه بكتاب الفقه الرضوي.

وسمعت من السيد موسى الزنجاني في مجلس بحثه قوله: "أن ظاهر قوله (عليه السلام): «فأقام على إحرامه» في صحيحة معاوية بن عمار هو حج الإفراد؛ وهو الحج الذي حج به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولخوف طول مدِّة الإحرام لا ينوي الحاج الإقامة في مكة خوف المشقة، فأمر (عليه السلام) بالتقصير تبعاًّ لنيَّته، لكنَّ الرواية غير خالية عن الإبهام".

والحاصل: أنَّه لا يمكن التمسك بها لإجمالها، أو لكونها أجنبية عن الإتمام والتقصير في الصلاة، وذكر الصلاة فيها اشتباه من النسَّاخ أو الراوي، وهو محتملٌ.

والاحتمال الذي نرجِّحه أنَّ السؤال عن رجلٍ قدم مكة فاعتمر وبقي على إحرامه إلى أوَّل الحج، فأجاب (عليه السلام) بوجوب إحلاله من إحرام عمرته بالتقصير، وإضافة الصلاة للتقصير وَهم.

ويؤيِّده سياق المنقول عن الفقه الرضوي من نسخة البحار؛ فإنَّه متبوعٌ بذكر أحكامٍ مختصَّةٍ بالتحلُّل من العمرة قبل الحج، والله العالم.

الرابع: مكاتبة ورواية علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام).

روى الشيخ الكليني عن عدَّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعاً عن علي بن مهزيار (رحمه الله) قال: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَنَّ الرِّوَايَةَ قَدِ اخْتَلَفَتْ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) فِي الإِتْمَامِ والتَّقْصِيرِ فِي الْحَرَمَيْنِ، فَمِنْهَا بِأَنْ يُتِمَّ الصَّلاةَ وَلَوْ صَلاةً وَاحِدَةً، وَمِنْهَا أَنْ يُقَصِّرَ مَا لَمْ يَنْوِ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ أَزَلْ عَلَى الإِتْمَامِ فِيهَا إِلَى أَنْ صَدَرْنَا فِي حَجِّنَا فِي عَامِنَا هَذَا، فَإِنَّ فُقَهَاءَ أَصْحَابِنَا أَشَارُوا عَلَيَّ بِالتَّقْصِيرِ إِذْ كُنْتُ لا أَنْوِي مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَصِرْتُ إِلَى التَّقْصِيرِ، وقَدْ ضِقْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَعْرِفَ رَأْيَكَ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ: قَدْ عَلِمْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَضْلَ الصَّلاةِ فِي الْحَرَمَيْنِ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ إِذَا دَخَلْتَهُمَا أَنْ لا تَقْصُرَ وتُكْثِرَ فِيهِمَا الصَّلاةَ.

فَقُلْتُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ مُشَافَهَةً: إِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِكَذَا وأَجَبْتَنِي بِكَذَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَيَّ شَيْ‏ءٍ تَعْنِي بِالْحَرَمَيْنِ؟ فَقَالَ: مَكَّةَ والْمَدِينَةَ»(24).

ورواها في التهذيب(25) بإسناده إلى علي بن مهزيار بتفاوت يسير وزيادة.

فمن ذلك ما في التهذيب بعد قوله «فإنَّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليَّ بالتقصير إذا(26) كنت لا أنوي مقام عشرة(27)»، زيد عليها في رواية الكليني: «فصرت إلى التقصير».

وأهم من الأوَّل ما قطعه الشيخ الحر من ذيل الحديث، ولم يروه الكليني كذلك، وأثبته الشيخ في التهذيب والاستبصار، وهو قوله بعد «مكة والمدينة»: «وَمَتَى إِذَا تَوَجَّهْتَ مِنْ مِنًى فَقَصِّرِ الصَّلاةَ، فَإِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مِنًى وَزُرْتَ الْبَيْتَ وَرَجَعْتَ إِلَى مِنًى فَأَتِمَّ الصَّلاةَ تِلْكَ الثَّلاثَةَ الأَيَّامِ وَقَالَ بِإِصْبَعِهِ ثَلاثاً».

وفي الرواية فوائد كثيرةٌ، منها التصريح بالخلاف الشديد بين فقهاء الأصحاب، وليس إلا لصدور الأخبار المتضاربة قطعاً، مع ما في تقرير الإمام بسكوته عن ردِّ هذه الأخبار من الدلالة على صدق صدورها، خصوصاً ما كان قال: «فَمِنْهَا بِأَنْ يُتِمَّ الصَّلاةَ ولَوْ صَلاةً وَاحِدَةً، ومِنْهَا أَنْ يُقَصِّرَ مَا لَمْ يَنْوِ مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ»، فإنَّ الأوَّل هو صحيح بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام)(28)، ومثله صحيح عثمان بن عيسى عن أبي الحسن (عليه السلام)(29)، والثاني هو صحيح بن بزيع عن الرضا (عليه السلام)(30)، وكلُّها ستمر عليك _إن شاء الله_.

وأما قوله: «فَإِنَّ فُقَهَاءَ أَصْحَابِنَا أَشَارُوا عَلَيَّ بِالتَّقْصِيرِ إِذْ كُنْتُ لا أَنْوِي مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَصِرْتُ إِلَى التَّقْصِيرِ، وَقَدْ ضِقْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَعْرِفَ رَأْيَكَ»، فإنَّه قد يُتوهم أنَّ فقهاء الأصحاب رجَّحوا له أو رواية القصر فأجابهم وسلَّم، وإليه مال الشيخ يوسف في حدائقه، قال: "أقول: وعلى كلٍّ من هذه الاحتمالات -لا سيَّما الأول- فهو منافٍ لما تقدَّم نقله من كتاب كامل الزيارات عن أيوب بن نوح من اختياره مع من نقل عنه ثمة التقصير، وكذا ما تضمنته صحيحة علي بن مهزيار من أمر فقهاء أصحابنا يومئذٍ علي بن مهزيار بذلك، وكأنَّ شيخنا المشار إليه غفل عن ذلك وما في توجيهه المذكور لهذا الخبر من الإشكال في المقام بمخالفة أولئك الأعلام الذين لا يُمكن نسبة هذه الوجوه إليهم، كما لا يخفى على ذوي الأفهام، اللهمَّ إلا أن يحمل الخبر المذكور على من علم بالحكم في هذه المسألة وأنَّ الأفضل التمام ثمَّ مع هذا يصلي قصراً فإنَّه لا يكون إلا عن أحد الوجهين المذكورين، وأمَّا أولئك الأجلاء فإنَّه بسبب ورود أخبار التقصير عليهم وترجحها لديهم لم يحصل لهم العلم بالحكم المذكور، ومن ثمَّ ذهب الصدوق (قدّس سرّه) في المسألة إلى وجوب التقصير أيضاً"(31).

لكنَّه في غير محلِّه؛ فإنَّه لا معنى لضيق صدره بذلك بعد أن أبلغ من الفقهاء بوجوب القصر في هذا الموضع الشريف، وهو وبهذا -أي فرض روايتهم وإخبراهم الجزمي- يتحقق له العلم برأي الإمام (عليه السلام) أو يطمئن له، فما تراه جعله لا يقرُّ لهم ولا يتابعهم في الاعتقاد ثم يسلِّم لهم في العمل!، إلا أنَّهم أشاروا عليه بما يوافق التكليف في الجملة، بل إنَّ المشورة عليه بالتقصير -لا أمره وترجيح الحكم بالتقصير على التمام- تنفي هذا الوهم من أصله، فإنَّ ظاهرها نصحه بما يستقيم مع الاحتياط وتناسب مع تردُّده بين مضموني الخبرين أو الأخبار التي ذكرها.

وهي دالَّة على تفضيل الإتمام إدراكاً للفضيلة التامَّة للصلاة والبقعة، وأنَّ الحرمين هما مكة والمدينة المشرفتين.

وأمَّا قوله (عليه السلام): «وَتُكْثِرَ فِيهِمَا الصَّلاةَ»، فقد حملها بعض علمائنا المعاصرين على استحباب الإكثار من خصوص الفريضة؛ لأنَّ السؤال عن الفريضة لا عن غيرها فاللام في الصلاة ذكرية، وهو بعيد؛ إذ الأمر بالإكثار من الصلاة متفرِّعٌ على التعريف بفضل البقعة، والتعليل عام، فالمنصرف من لام التعريف في الصلاة مطلق ما يناسب إدراك الفضيلة فيها، وهي مطلق الصلاة، وإن كان أبرز مصاديقها الفرائض.

وأمَّا قوله (عليه السلام): «وَمَتَى إِذَا تَوَجَّهْتَ مِنْ مِنًى فَقَصِّرِ الصَّلاةَ».

فقد سجلَّها بعض الأعلام في كتبه وجرى على ذلك السيد الزنجاني -في مجلس بحثه- فقرأها: «مكة والمدينة»«ومنى، إذا توجهت من منى» الحديث، ثمَّ أشكل عليه المعنى وعدَّ ذلك من مُضعِّفات الخبر؛ إذ لم يقل أحد بأنَّ منىً من الحرم أو توابعه، وهو كما ترى؛ إذ ليس في التهذيب ونسخه -الموجودة لدينا- إلا «متى» بالتاء، ومن غير المناسب ذكر ثلاثة مواضع في الجواب من غير بيان زائد يوافق السؤال الذي هو موضوعين، نعم، هي في نسخة البحار المطبوعة «منى» بالنون، روى (رحمه الله) ما صورته: «فقلت أيّ شيء تعني بالحرمين؟ فقال: مكة والمدينة ومنى، أمَّا إذا توجهت من منى فقصر الصلاة»(32)، وهو تصحيف لا محالة.

وأمَّاقوله  (عليه السلام):«فَإِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مِنًى وَزُرْتَ الْبَيْتَ وَرَجَعْتَ إِلَى مِنًى فَأَتِمَّ الصَّلاةَ تِلْكَ الثَّلاثَةَ الأَيَّامِ، وَقَالَ بِإِصْبَعِهِ ثَلاثاً».

فالمراد -بقرينة أنَّ الكلام يدور حول التقصير في خصوص الحرمين لا في موضع ثالث كمنى مثلاً، وإلا لاستأنف له كلام وجملة جديدة- أنَّه يستحب للحاج أن يتمَّ الصلاة في الحرمين مطلقاً، سواء كان في أول دخوله الحرم أو بعد رجوعه له من منى وزيارته للبيت الحرام أيام التشريق، فإنَّ البأس منفي عن زيارة البيت أيام التشريق مع وجوب المبيت فيها بمنى للمتعجِّل وغيره، كما في صحيح جميل بن درّاج عن الصادق  (عليه السلام): «لا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ مَكَّةَ فَيَطُوفَ فِي أَيَّامِ مِنًى ولا يَبِيتُ بِهَا»(33)، وهذا التفصيل من الإمام تأكيد للاستحباب وجارٍ مجرى «يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس».

وبهذا تكون الرواية تامَّة الدلالة على أفضلية الإتمام في الحرمين خاصَّة، غير نافيةٍ لمسجد الكوفة والحائر الحسيني على مشرِّفه السلام؛ لكونها ليست في مقام الحصر والتعرُّض لهما، وهي عمدة في الباب لميزاتٍ كثيرةٍ ذكرناها في الراوي -علي بن مهزيار (رحمه الله) الذي تكرَّر ذكره في أسانيد كثيرة في أخبار الباب واطلاعه التامِّ على المسألة كيونس بن عبد الرحمن- والمروي عنه (عليه السلام) ومضمون قوله الشريف.

الخامس: ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليه السلام)، وله في المسألة خبران.

الأوَّل: ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده الصحيح لمحمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ التَّمَامِ بِمَكَّةَ والْمَدِينَةِ قَالَ: «أَتِمَّ وإِنْ لَمْ تُصَلِّ فِيهِمَا إِلا صَلاةً وَاحِدَةً»(34).

وهو عن أحد كتابي ابن محبوب في الحج أو الصلاة، روى عن كتبه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيبين كثيراً، ولم ينقل عنها في أسانيد الكافي، ويظهر منه عدم وجدانه له وقت التأليف لا عدم الاعتماد عليه، وهو أمرٌ محتملٌ جداً وحاصلٌ كثيراً.

ومحمد بن عبد الجبار هو ابن أبي الصهبان من أصحاب الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، القمي الثقة بشهادة الشيخ في الرجال(35)، وقع في عشرات الطرق لنسخ الكتب التي رواها عنه كبار محدثي الأصحاب وأجلائهم، تشهد أخباره الكثيرة في أصول الكافي التي رواها أحمد بن إدريس -وهو أبو علي الأشعري- على جلالته ودرايته، وأكثر أخباره عن الأئمة (عليهم السلام) مكاتبات لأبي محمد صلوات الله عليه.

وأما عبد الرحمن بن الحجاج فقد قال النجاشي فيه: "مولاهم كوفي بياع السابري سكن بغداد ورمي بالكيسانية، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) وبقي بعد أبي الحسن (عليه السلام) ورجع إلى الحقِّ، ولقي الرضا (عليه السلام) وكان ثقةً ثقة ثبتاً وجهاً، وكانت بنت بنت ابنه مختلطةً مع عجائزنا تذكر عن سلفها ما كان عليه من العبادة"(36).

وفي عبارة النجاشي بالرمي بالكيسانية إشعارٌ بضعف القول كما هي عادته في التعبير عن مثل هذا، ولو كان الأمر بذاك الوضوح لبان.

ورميه بالكيسانية كرمي غيره بالوقف والغلوِّ كما هو مشاهدٌ، لا لشيءٍ إلا لأنَّه يروي ما له ربط بمسائلهم وهم يروون عنه ما أخبر، فقد روى الكشي عن حمدويه قال: حدثنا الحسن بن موسى، قال: روى أصحابنا عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أتاني ابن عم لي يسألني أن آذن لحيان السراج فأذنت له، فقال لي: يا أبا عبد الله إني أريد أن أسألك عن شيءٍ أنا به عالم، إلا أنّي أحب أن أسألك عنه، أخبرني عن عمك محمد بن علي، مات؟ قال: قلت: أخبرني أبي أنَّه كان في ضيعة له، فأتى فقيل له أدرك عمك، قال: فأتيته وقد كانت أصابته غشية، فأفاق فقال لي: ارجع إلى ضيعتك، قال: فأبيت، فقال: لترجعنَّ، قال: فانصرفت فما بلغت الضيعة حتى أتوني فقالوا: أدركه، فأتيته فوجدته قد اعتقل لسانه، فدعا بطست وجعل يكتب وصيته، فما برحت حتى غمضته وغسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته، فإن كان هذا موتاً فقد والله مات، قال: فقال لي: رحمك الله، شُبِّهَ على أبيك، قال: قلت: يا سبحان الله أنت تصدف على قلبك، قال: فقال لي: وما الصدف على القلب؟ قال: قلت: الكذب»، وهذا الخبر إن كان حجةً في رميه بالكيسانية، فأجنبيَّته عن الدعوى واضحةٌ، ومجرد نقله للخبر لا ينبي عن مذهبه، وإن كان حجةً لنفي التهمة عنه، فصلاحيته لائحةٌ.

بل ينفع لردِّ التهمة عنه ما رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده لأبي علي الأرجاني الفارسي عن عبد الرحمن بن الحجاج قَالَ: «سَأَلْتُ [أي الأرجاني](37) عَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أُخِذَ فِيهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَاضِي (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ صَارَ فِي يَدِ هَذَا ومَا نَدْرِي إِلَى مَا يَصِيرُ، فَهَلْ بَلَغَكَ عَنْهُ فِي أَحَدٍ مِنْ وُلْدِهِ شَيْ‏ءٌ، فَقَالَ لِي مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَداً يَسْأَلُنِي عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ كَذَا فِي دَارِهِ فِي مَسْجِدٍ لَهُ، وهُوَ يَدْعُو وعَلَى يَمِينِهِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ قَدْ عَرَفْتَ انْقِطَاعِي إِلَيْكَ وخِدْمَتِي لَكَ فَمَنْ وَلِيُّ النَّاسِ بَعْدَكَ، فَقَالَ إِنَّ مُوسَى قَدْ لَبِسَ الدِّرْعَ وسَاوَى عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لا أَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إِلَى شَيْ‏ءٍ»(38).

ولو أُغمض النظر عمّا قدَّمنا -وعن الحديث السابق- وسُلِّم كون ابن الحجاج في زمنٍ لم يكن على الحق، فيُحتمل أن يكون قول النجاشي «رجع إلى الحق» منصرفاً عن الكيسانية أو الوقف، لغلبته في الفطحية، وظهور عدم جزمه بكيسانية ابن الحجاج، خصوصاً وأنَّ الجملة معطوفة على قوله «وبقي بعد أبي الحسن (عليه السلام)»، والمعنى أنَّه كان ممن تبع عبد الله الأفطح في دعواه كغالب الشيعة حينها ثمَّ تبيَّن لهم الحق فرجعوا للكاظم (عليه السلام)، وليس في ذلك غمز فيه، فإنّه لم يبقَ من الشيعة إلا القليل ممن عرف الأمر وبقي عليه حينها، فلما مات عبد الله انعكس حالهم وأبصروا الحق مجدَّداً وزالت عنهم الشبهة، وكلُّ هذا فيما يقرب من ستة أشهر عاشها الأفطح بعد أبيه (عليه السلام)، غير أنَّ الأمر سهل عندنا بعد رواية الكليني المتقدَّمة، فنسبته للكيسانية كنسبته للوقف باطلة، وهو كزرارة ممن عرفوا الحقَّ ووالى أبي الحسن موسى بعد أبيه (عليه السلام) بلا فصل.

وذكر العلامة أنَّه كان وكيلاً لأبي عبد الله (عليه السلام)، والوكالة في نفسها ووضعاً لا تدل على الوثاقة، لكنَّ ذكرها عند الرجاليين منصرفٌ لأعلى رتبها لكونهم في مقام التوصيف اللائق بالمترجم الراوي، وديدنهم جارٍ على ذكر الصفات التي يتعلَّق بها غرضهم، فلا تشمل مطلق التوكيل حتى في حقائر الأمور، وهو استعمالهم الذي لا ينكر.

والحاصل: أنَّ ابن الحجاج حاله أبيَن من أن يبيَّن وشأنه فوق أن يُعرَّف، وإنَّما أسهبنا في شرح أوصافه لعروض نكاتٍ وقواعد مهمة في البيْن.

وأمَّا مضمونه: فصحيح ابن مهزيار السابق شاهد على صحته لما يظهر من تقرير الأصحاب وسكوت الإمام (عليه السلام) عن ردِّه، وهو نص في ترجيح الإتمام، بصرف ظاهر الأمر عن الوجوب بأخبار ناصَّة على التخيير، مع عدم ظهور الأمر هنا في نفي القصر؛ لكونه في مقام بيان حكم الإتمام لا الحصر والتعيين.

الثاني: ما رواه الشيخ (قدّس سرّه) أيضاً في التهذيب عن كتاب محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن حسن بن حسين اللؤلؤي عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام): إِنَّ هِشَاماً رَوَى عَنْكَ أَنَّكَ أَمَرْتَهُ بِالتَّمَامِ فِي الْحَرَمَيْنِ وذَلِكَ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ، قَالَ: «لا، كُنْتُ أَنَا ومَنْ مَضَى مِنْ آبَائِي إِذَا وَرَدْنَا مَكَّةَ أَتْمَمْنَا الصَّلاةَ واسْتَتَرْنَا مِنَ النَّاسِ»(39).

والحسن بن الحسين اللؤلؤي "كوفيٌّ ثقةٌ كثيرُ الرواية له كتاب مجموع نوادر"(40)، كما عن الشيخ النجاشي، لكنَّه قال عند ذكر محمد بن أحمد بن يحيى: "وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه" إلى أن قال: "أو ما ينفرد (يتفرد) به الحسن بن الحسين اللؤلؤي" ثمَّ قال: "قال أبو العباس بن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله، وتبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمه الله) على ذلك، إلا في محمد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه؛ لأنَّه كان على ظاهر العدالة والثقة"(41).

"روى عنه محمد بن أحمد بن يحيى وضعفه ابن بابويه‏"(42) كما في رجال الشيخ (رحمه الله).

والذي يظهر أنَّ استثناء ابن الوليد له ليس لضعف ابن اللؤلؤي في نفسه، بل يرجع سببه ويتبيَّن بما قاله الشيخ النجاشي في أحمد بن محمد بن يحيي في نفس الموضع الذي نقلنا منه، قال في محمد بن أحمد: "أبو جعفر، كان ثقةً في الحديث. إلا أنَّ أصحابنا قالوا: كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ وما عليه في نفسه مطعن في شي‏ء"، ومحمد راو عن كتاب ابن اللؤلؤي، وهو كتاب نوادر، يغلب فيها التفرَّق والإنفراد بالنقل، فكما أنَّ الرواية عن الضعفاء واعتماد المراسيل غير ضائرةٍ بوثاقة الراوي كمحمد بن أحمد في نفسه، فهو كذلك في ابن اللؤلؤي، ويشهد له توثيق النجاشي نفسه لابن اللؤلؤي مع ظهور التفاته لما ذكره ابن الوليد.

وأمَّا ما ذكره الشيخ من تضعيف الشيخ الصدوق لابن اللؤلؤي فهو -علاوة على ظهوره في عدم الجزم به- تضعيف من وصفوا بنقَّاد الأحاديث كابن الوليد، وهو الدائر في تعابير الشيخ (رحمه الله) وغيره، لا عند الرجاليين، ونقَّاد الأحاديث قد ضعَّفوا روايات كثيرٍ من المحدثين كمحمد بن خالد البرقي الذي قالوا فيه أنَّه ضعيف في الحديث، وكمحمد بن أحمد بن يحيى هنا، وكسهل بن زياد كما في الاستبصار وغيرهم.

وقوله (عليه السلام): «لاَ، كُنْتُ أَنَا ومَنْ مَضَى مِنْ آبَائِي إِذَا وَرَدْنَا مَكَّةَ أَتْمَمْنَا الصَّلاةَ واسْتَتَرْنَا مِنَ النَّاسِ»، نفيٌ لما من أجله أمر الإمام (عليه السلام) هشاماً بالتمام، لا أنَّ المنفي هو ما رواه هشام، والمعنى: أنَّه (عليه السلام) قد أمر هشاماً بالتمام في مكة دون القصر، والتمام خلاف ما عليه الناس فلا يكون إظهاره للتقيَّة، بل الاستتار به، وما هو من أجلِّ الناس وللتقية هو إظهار التقصير لغير المقيم، وبهذا يتبيَّن أنَّها دليل على الإتمام لا القصر، وهي مشتملةٌ على إخبارين، أحدهما عن هشام برواية ابن الحجاج، والأخرى عن ابن الحجاج نفسه شارحةً لرواية هشام.

السادس: ما رواه عمر بن رباح [رياح] عن أبي الحسن الكاظم (عليه السلام)، وله خبرٌ واحدٌ.

وهو ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن صفوان عن عمر بن رباح قال: «قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام): أَقْدمُ مَكَّةَ أُتِمُّ أَوْ أَقْصُرُ؟ قَالَ: أَتِمَّ، قُلْتُ: وَأَمُرُّ عَلَى الْمَدِينَةِ فَأُتِمُّ  الصَّلاةَ أَوْ أَقْصُرُ؟ قَالَ:أَتِمَّ»(43).

قال الشيخ النجاشي في محمد بن الحسين بن أبي الخطاب: "قال النجاشي: محمد بن الحسين بن أبي الخطاب أبو جعفر الزيات الهمداني واسم أبي الخطاب زيد، جليل من أصحابنا، عظيم القدر، كثير الرواية، ثقة، عين، حسن التصانيف، مسكون إلى روايته، له كتاب التوحيد، كتاب المعرفة والبداء، كتاب الرد على أهل القدر، كتاب الإمامة، كتاب اللؤلؤة، كتاب وصايا الأئمة (عليهم السلام)، كتاب النوادر. أخبرنا علي بن أحمد، عن محمد بن الحسن، عن الصفار، قال: حدثنا محمد بن الحسين بسائر كتبه ومات محمد بن الحسين سنة 262"(44).

وهو من أجلَّة المشايخ الواقعين في أسانيد كثير جداً من طرق الكتب والأصول والأخبار، ويكفي في وصفه أنَّه «مسكون إلى روايته»، وهي نصّ في قبول أخباره، ومن نحو هذا ما ذكره الشيخ النجاشي (رحمه الله) في فهرسته في أحمد بن عبد الله بن أحمد بن جُلين -بضم الجيم- الدوري أبو بكر الوراق: "كان من أصحابنا ثقةً في حديثه، مسكوناً إلى روايته، لا نعرف له إلا كتاباً واحداً في طرق من روى رد الشمس وما يتحقق بأمرنا مع اختلاطه بالعامَّة وروايته عنهم وروايتهم عنه"(45).

وقال قبل هذا في أحمد بن محمد بن جعفر أبو علي الصولي: "بصري صحب الجلودي عمره وقدم بغداد سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وسمع النَّاس منه، وكان ثقةً في حديثه مسكوناً إلى روايته، غير أنَّه قيل: إنَّه يروي عن الضعفاء"(46)، فالمقابلة بين السكون إلى روايته وما غمز به بالرواية عن الضعفاء -أي الذين لا يثق الرواة بنقلهم؛ لضعفٍ في حديثهم أو فساد مذهبهم أو غير هذا- تنبئك عن معنى «مسكوناً إلى روايته» في المصطلح(47).

وأمَّا عمر بن رباح، فقد ذكر الحر (رحمه الله) في الوسائل اسم أبيه (رياح) بالياء، ونسختنا من التهذيب (رباح) بالباء، والصحيح عمر بن رباح -بالباء- لما يأتي؛ وعمر بن رياح هو الذي يروي عنه أبو بصير عن الباقر (عليه السلام) كما في الكافي، وهذا يروي عنه صفوان عن أبي الحسن الكاظم (عليه السلام).

وعمر بن رياح الراوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) والذي يروي عنه أبو بصير قد خرج عن دين أهل البيت (عليهم السلام) لشبهةٍ عرضت له في أمر التقية، وخبثٍ في نفسه أظهره متكئاً على هذه الشبهة، وهذا هو المنقول في رجال الكشي في عنوانه معبراً عنه «بقيل»، قال: "قيل أنَّه كان أولاً يقول بإمامة أبي جعفر (عليه السلام)، ثم إنَّه فارق هذا القول وخالف أصحابه مع عدَّة يسيرة بايعوه على ضلالته... فمال إلى سنته بقول البترية"(48)، والبترية من الزيدية الذين لا يتبرؤون من الأوائل.

ويؤيده ما رواه الكليني (رحمه الله) في الفروع بسنديه إلى البزنطي عن أبان عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن عن أبي جعفر (عليه السلام) قَالَ: «قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ مَنْ طَلَّقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ أَنَّكَ لا تَرَى طَلاقَهُ شَيْئاً، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا أَقُولُهُ بَلِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نُفْتِيكُمْ بِالْجَوْرِ لَكُنَّا شَرّاً مِنْكُمْ؛ لأَنَّ اللَّهَ (عزّ وجلّ) يَقُولُ {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ»(49).

ومما يبعد اتحادهما -إضافةً لقصة ابن رياح مع الباقر (عليه السلام) -أن ابن رياح بالياء- يروي عنه أبو بصير عن الباقر (عليه السلام)، وابن رباح بالباء- يروي عنه صفوان عن الكاظم (عليه السلام)، ومن البعيد بحسب العادة بقاء ابن رياح -الذي يظهر من رواية أبي بصير عنه وراوية الكشي أنَّه مال إلى مذهبه عدة يسيرة -إلى زمن الكاظم (عليه السلام) ويروي عنه صفوان، وهذا ممَّا دعى السيد الزنجاني (حفظه الله) لاستبعاد اتحادهما في مجلس بحثه هذا العام، مع أنَّ أمر البترية لا يجتمع مع روايتهم عن الصادق والكاظم وأخذ الأحكام منهم (عليهم السلام).

وابن رياح عبدي بصري، وفي رجال ابن داوود أنَّه أهوازي عبدي، وفي الكمال وغيره أبو حفص الضرير البصري وهو عمر بن أبي عمر العبدي، وفي التهذيب: "عمر بن رياح العبدي أبو حفص البصري الضرير وهو عمر بن أبي عمر مولى عبد الله بن طاوس"، وفي تهذيب التهذيب "ينسب ألواناً عبدي وسعدي وباهلي، وطبقته موافقة لعمر بن رياح البتري المذكور عندنا، وابن رباح كوفي على احتمال قوي، وهو مولى لآل سعد بن أبي وقاص كذلك قوياً"(50).

وفي نصب الراية: "عمر بن رياح هو عمر بن أبي عمر العبدي مولى بن طاوس يحدث عن بن طاوس بالأباطيل".

وابن رباح منصوص على وقفه عندنا هو وولده وكثير من أحفاده، قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) في أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح القلاء السواق: "وجدهم عمر بن رباح القلاء، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، ووقف وكلّ ولده واقفة، وآخر من بقي منهم أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن عمر بن رباح، كان شديد العناد في المذهب‏"(51).

فالصحيح أنَّه ابن رباح القلاء الواقفي، لا ابن رياح البتري، وهما متعدِّدان.

وما قيل من أنَّ صفوان لا يروي عن الواقفة، فروايته عن ابن رباح تحمل على زمن اعتداله، والعبرة بالرواية حال التحمل لا حال الأداء كما هو مختار الشيخ البهائي (رحمه الله)(52)، فيه أنَّ رواية صفوان -أو غيره- عن الواقفة بل عن غيرهم مقطوعة الوقوع في زمن الاعتدال والانحراف، ويكفي أن يروي فقهاء الشيعة عن الحسن بن محمد بن سماعة -شيخ الواقفة والمعاند في الوقف- ناقضاً، نعم كان الشيعة يتجنَّبون أصحاب البدع المنتحلين للتشيُّع، لكنَّه وقت الفتن العظام ومخصوص بكبراء مجرميهم لا كل الواقفة، فلا حاجة لحمل الرواية على حال اعتدال ابن رباح، إلا أن يكون القائل بهذا يعني ابن رياح، وقد بان لك أنَّ الحق كونه ابن رباح بالباء.

ويتَّضح لك بعد هذا ما في خلاصة العلامة من قوله:"علي بن محمد بن علي بن عمر بن رباح بالراء المفتوحة والباء المنقطة تحتها نقطة أبو الحسن السواق ويقال القلاء" فإنَّه خطأ، بل هو ابن رياح بالياء، وما في معجم الرجال الذي شكك في وجود ابن رياح، وخص ابن رباح بالرواية عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام)، وهما متعدِّدان.

وعلي أيِّ حال، فتكفينا رواية صفوان عنه ثمَّ تلقي أجلاء الأصحاب لها ورايتهم لها مع اطلاعهم على الحال.

وهي كسابقاتها كالنصِّ في رجحان الإتمام على التقصير، بعد جمعها مع أخبار التخيير.

السابع: ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام)، وله خبران.

الأول: ما رواه الشيخ منفردا ًبإسناده الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام): «في الصلاة بمكة، قال: من شاء أتمَّ ومن شاء قصَّر»(53).

والثاني: ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) صحيحاً في الكافي ورواه الشيخ في التهذيب عنه عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن علي بن يقطين قال:«سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) عَنِ التَّقْصِيرِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: أَتِمَّ ولَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِلاّ أَنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا(54) أُحِبُّ لِنَفْسِي»(55).

ويونس مولى لعلي بن يقطين، ومنه أخذ، ولم تعهد رواية سعد بن أبي خلف عن علي بن أبي يقطين إلا في هذا المورد في الكتب الأربعة، ولو قيل برجحان أخبار يونس وأقربها للصادر ما كان فيه بأس، واختصاص يونس بابن يقطين سببٌ وجيه لهذا الأمر.

قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) في سعد بن أبي خلف: "يعرف بالزام مولى بني زهرة بن كلاب كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام). وله كتاب يرويه عنه جماعة منهم ابن أبي عمير"(56).

وكذا قال الشيخ في الفهرست: "صاحب أبي عبد الله (عليه السلام)"(57).

واحتمال روايته مشافهةً لا عن كتاب علي بن يقطين ورواية يونس عن كتاب ابن يقطين واردة جداً، لما ذكرنا من كونه قد اختص بابن يقطين.

وللسيد المددي (حفظه الله) رأي في أخبار يونس قال أنَّها أوجبت اتهامه بالوضع والاجتهاد، وهي صرفه لمعاني الأخبار بتأليف المعاني من مختلفها مشبهاً الفتوى، وذكر شاهداً عليه في باب (ما وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الزكاة عليه) من كتاب الزكاة في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) الزَّكَاةَ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ الْحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والتَّمْرِ والزَّبِيبِ والذَّهَبِ والْفِضَّةِ والإِبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ وعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ».

قَالَ يُونُسُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ وعَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) فِيهَا سَبْعَ رَكَعَاتٍ، وكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَضَعَهَا وَسَنَّهَا فِي أَوَّلِ نُبُوَّتِهِ عَلَى تِسْعَةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُبُوبِ»(58).

وغير بعيد ما ذكر -دام فضله-؛ فإنَّ الصحيح الثاني هنا شبيه بما رواه زياد النقدي رأس الواقفة عن أبي الحسن (عليه السلام) في الحديث الثالث عشر من هذا الباب في الوسائل عن أبي الحسن (عليه السلام): «يَا زِيَادُ أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي وأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي أَتِمَّ الصَّلاةَ فِي الْحَرَمَيْنِ وبِالْكُوفَةِ وعِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)».

وكذا الحديث الحادي والعشرون بسند الصحيح الثاني هنا عن يونس (رحمه الله) نفسه عن زياد بن مروان [وهو النقدي] وفيه: «أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، أَتِمَّ الصَّلاةَ».

وما وقفنا عليه من أسباب الطعن في أخبار يونس بل في شخصه (رحمه الله) هو المذكور في رجال الكشي من مقولاتٍ له في الكلام أوجبت الشبهة على كثير حتى قرن بهشام بن الحكم، وأفرد لهما سعد بن عبد الله وشيخه يعقوب بن يزيد مصنفاً يرد على مقالتهما وعلى علي بن إبراهيم ممن نافح عنهما، وأفرد الكشي باباً لما روي في يونس وجماعته الذين نبزوا وغيرهم باليونسية وكان لهم كتاب الجامع في الكلام(59)، إضافةً لرمي الأعداء له في نسبه شرَّف الله مقامه ونزه حسبه.

وكذا أخباره (رحمه الله)، فإن كثيراً منها مزيَّن بشرحه وفقهه للحديث، وكأنَّه نحوٌ من الجمع بين الأخبار، وليس من أصل الرواية.

وعلى أيِّ حال: فدلالة الصحيحتين على أفضلية الإتمام مع جواز قصر الصلاة في الحرمين منصوصة.

الثامن: ما رواه عمران بن حمران عن الكاظم (عليه السلام) وهو خبر واحد.

وهو الذي رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن الحسين عن الحسن بن حماد بن عديس عن عمران بن حمران، قال: «قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام): أَقْصُرُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ أُتِمُّ؟ قَالَ: إِنْ قَصَرْتَ فَلَكَ وإِنْ أَتْمَمْتَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَزِيَادَةُ الْخَيْرِ خَيْرٌ»(60).

ورواه بإسناده عن محمد بن الحسين عن الحسن بن علي بن فضال عن عمران مثله، إلا أنَّ فيه «أقصر الصلاة في المسجد».

ورواه ابن قولويه في كامل الزيارات عن أحمد بن إدريس، قال: حدثني أحمد بن أبي زاهر، عن محمد بن الحسين الزيات، عن حسين بن عمران، عن عمران مثله(61).

ومحمد بن الحسين هو ابن زيد أبي الخطاب المتقدم، وذكرنا أنَّه مسكون إلى روايته، وذكرها بسندين من كتابه أوثق في الاطمئنان.

والحسن بن حماد بن عديس لم يذكر إلا في أسانيد جملة من الأخبار والطرق، وهو راوي كتاب عمران بن حمران الأذرعي، ويمكن أن يكون الحسن بن حماد هو الطايلسي، أخ لموسى الطيالسي المشترط طبقة معه، قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) في موسى: "ذكره ابن نوح وقال: ذكره محمد بن الحسين بن أبي الخطاب في الواقفة وقال: هو موسى بن حماد الذراع (الدراع)"(62) وفي إيضاح الاشتباه بالدال أو الذال، وفي الخلاصة قد يقال «الزراع»(63)، وكذا يُحتمل أن يكون الذراع تصحيف الأذرعي نسبة لبلدة أذرعات من نواحي الشام، وهي المنسوب إليها عمران بن حمران لسكناه فيها.

وعمران بن حمران لا يعلم كونه من آل زرارة ولم يرد فيه توثيق، وكتابه بسند النجاشي والشيخ فيه حميد عن ابن سماعة -وهما واقفيَّان كالمحتمل فيه- عن الحسن بن حماد عنه كتاب عمران.

ودلالتها -بعد الركون لها لكونها من مرويات الصفار الموصوف بأنَّه «قليل السقط في الرواية» الكاشف عن حاله في النقل، ومعتمد فضلاء المحدثين كابن الوليد والراوي عن ابن أبي الخطاب المسكون إلى روايته، ولموافقتها لمضامين الروايات الأخر- كمثيلاتها على أفضلية الإتمام والتخيير بينه وبين القصر.

 

* الهوامش:

(1) التهذيب 5: 430/ 1494، في الزيادات في فقه الحج.

(2) الاستبصار 2: 334/ 1191، ب 229.

(3) الوسائل 8: 524/ ح1 ب25.

(4) كامل الزيارات: 432، الهامش 2، مؤسسة نشر الفقاهة، ط1، 1417 هـ.

(5) فهرست النجاشي ر 81.

(6) الفقيه 1: 422/ ح1283، بتحقيق الغفاري.

(7) كامل الزيارات: 430/ ح5.

(8) النجاشي ر 370.

(9) النجاشي ر846.

(10) التهذيب 2: 173/ ح147.

(11) الخصال: 252.

(12) الفقيه 1: 422/ ح1283، بتحقيق الغفاري.

(13) الكافي 4: 524/ 7، باب إتمام الصلاة في الحرمين.

(14) التهذيب 5: 426/ ح1480.

(15) الكافي 4: 524/ ح5.

(16) التهذيب 5ك 430/ ح136.

(17) الفهرست: 512/ ر813 (يونس بن عبد الرحمن).

(18) التهذيب 5: 474/ ح314.

(19) أي خبر عمر بن رباح المذكور في التهذيب وهذا الخبر.

(20) التهذيب 5: 474.

(21) كذا في المستدرك.

(22) المستدرك 6: 546/ ح8.

(23) البحار 96: 359/ ح33.

(24) الكافي 4: 525/ ح8.

(25) التهذيب 5: 428-429/ ح133.

(26) في الكافي: «إذ».

(27) في الكافي: «عشرة أيام».

(28) وهو الخبر الخامس من هذا الباب في الوسائل.

(29) وهو الخبر السابع عشر من هذا الباب.

(30) وهو الخبر الثاني والثلاثون من هذا الباب.

(31) الحدائق 11: 446-447.

(32) البحار 86: 83.

(33) الاستبصار، ج2، ص295.

(34) التهذيب 5: 426/ ح127.

(35) رجال الشيخ 391/ ر5765.

(36) فهرست النجاشي: 237-238/ ر630.

(37) بقرينة ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد 2: 217، قال (رحمه الله): "وروى أبو علي الأرجاني عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: دخلت على جعفر بن محمد (عليهما السلام) في منزله، فإذا هو في بيت كذا من داره في مسجد له، وهو يدعو وعلى يمينه موسى بن جعفر (عليهما السلام) تؤمن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي الأمر بعدك؟ قال: «يا عبد الرحمن، إن موسى قد لبس الدرع واستوت عليه» فقلت له: لا أحتاج بعدها إلى شئ".

(38) الكافي 1: 308

(39) التهذيب 5: 428/ ح132.

(40) فهرست النجاشي: 40/ ر83.

(41) فهرست النجاشي: 348/ ر939.

(42) رجال الشيخ: 424/ ر6110.

(43) التهذيب 5: 426/ ح125، وأورد أوله في 5: 474/ ح313.

(44) فهرست النجاشي: 334/ ر897.

(45) فهرست النجاشي 85/ ر205.

(46) فهرست النجاشي: 84/ ر202.

(47) وكذا في رفاعة بن موسى الأسدي (النجاشي: 166/ ر438)، قال فيه: (كان ثقة في حديثه مسكونا إلى روايته لا يعترض عليه بشي‏ء من الغمز حسن الطريقة)، وكذا في لوط بن يحيى صاحب المقتل (321/ ر875)، وغيرهم تقف عليهم بالتتبع وتقف على معنى المصطلح بدلالات مختلفة في السياق.

(48) رجال الكشي ر430، تحقيق مصطفوي (رحمه الله).

(49) الكافي 6: 57/ ح1 باب من طلق لغير الكتاب والسنة.

(50) انظر ترجمة أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح في النجاشي ر229.

(51) فهرست النجاشي: 92/ ر229.

(52) قاله السيد الزنجاني في جلسة بحثه هذا العام.

(53) التهذيب 5: 430/ ح138.

(54) في التهذيب: «مثل».

(55) الكافي 4: 542/ ح3، التهذيب 5: 429/ ح134.

(56) فهرست النحاشي: 178/ ر469.

(57) الفهرست: 217/ ر320.

(58) 3: 509/ ح2.

(59) أنظر الكشي ر956.

(60) التهذيب 5: 430/ ح139.

(61) كامل الزيارات: 432/ ح9 باب التمام عند قبر الحسين (عليه السلام) وجميع المشاهد.

(62) فهرست النجاشي 410/ ر1092.

(63) الخلاصة: 258.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا