أحكام التربة الحسينية

أحكام التربة الحسينية

مدخل البحث:

إن مما لا شك فيه أن هناك بقاعا كثيرة احتلت مكانة خاصة في نفوس الناس وذلك لأسباب مختلفة، فقد يكون ذلك نتيجة لاقترانها ببعض الحوادث السعيدة أو الحزينة أو المفصلية، وقد يكون ذلك بسبب اشتمالها على قبور تحوي أجسادا لها قدسيتها، أو لأسباب تعبدية صرفة.

وعلى هذا الصعيد تأتي تربة كربلاء في الفكر والفقه الشيعي، فهذه التربة لها مكانتها الخاصة في وجدان الشيعة وفي فقههم، وإذا ما أردنا تلمس السبب والعلة لهذه المكانة الخاصة لأمكننا طرح ما يلي كأهم وأوضح الأسباب لهذه المكانة:

1- اقتران هذه التربة بحادثة حزينة دامية تُعد الأكثر وقعا وإيلاما في وجدان الشيعة، وذلك برغم كثرة الحوادث الحزينة والمؤلمة التي تستعر في وجدانهم، ألا وهي حادثة كربلاء العظيمة التي تعتبر - وبكل المقاييس- حادثة مفصلية في تاريخ أهل البيت(ع) وشيعتهم.

2- احتوائها على قبر الحسين (ع) وقبور أصحابه من الشهداء(رضوان الله عليهم)، مع ما تمثله هذه القبور من رمزية مهمة لدى الشيعة.

3- ما ورد من روايات أهل البيت (ع) الكثيرة في فضل هذه التربة وبيان مزاياها، وهو ما أكدته –تبعا لذلك- فتاوى فقهاء الشيعة على مر العصور.

ونظرا لأهمية هذه التربة، ولما جاء فيها من روايات عديدة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، هذه الروايات التي أسست للعديد من الأحكام المرتبطة بهذه التربة والتي تعرض لها الفقهاء منذ القدم في كتبهم وموسوعاتهم الفقهية، فقد رأيت أن أتطرق هنا إلى ما ورد حول هذه التربة المباركة من فتاوى وأحكام، ثم أعقب بذكر ما دل عليها من أدلة ونصوص، وسأستعرض هذه الفتاوى ضمن تسعة مباحث كالتالي:

1- حرمة تنجيس التربة الحسينية.

2- خلط التربة الحسينية بحنوط الميت.

3- الكتابة بالتربة الحسينية على كفن الميت.

4- وضع التربة الحسينية مع الميت في قبره.

5- السجود على التربة الحسينية.

6- التسبيح بالتربة الحسينية.

7- الاستشفاء بالتربة الحسينية..

8- تحنيك المولود بالتربة الحسينية.

9- الإفطار على التربة الحسينية يومي الفطر وعاشوراء:

وصدّرتُ أغلب هذه المباحث بذكر الفتوى التي تناسبها، معتمدا في نقلي للفتوى بشكل أساسي على كتابَي (العروة الوثقى) للسيد اليزدي، و(وسيلة النجاة) للسيد الأصفهاني، كما نقلت عبارة واحدة من كتاب الدروس للشهيد الأول لاشتمالها على بعض المزايا.

1- حرمة تنجيس التربة الحسينية:

قال السيد اليزدي (قده) في العروة الوثقى: «مسألة 25: يجب إزالة النجاسة عن التربة الحسينية، بل عن تربة الرسول وسائر الأئمة(ع) المأخوذة من قبورهم، ويحرم تنجيسها، ولا فرق في التربة الحسينية بين المأخوذة من القبر الشريف أو من الخارج إذا وضعت عليه بقصد التبرك والاستشفاء، وكذا السبحة والتربة المأخوذة بقصد التبرك لأجل الصلاة»(1).

والكلام هنا إنما هو بالنسبة إلى تربة القبر أو التربة المأخوذة من تلك البقاع الطاهرة لأجل التبرك أو الاستشفاء أو ما شابهه، وليس الكلام عن مطلق التراب الموجود في تلك البقاع الطاهرة مما هو على وجه الأرض أو مما تصنع به الأواني الخزفية هناك، ضرورة أن التربة بعد أخذها لتلك الغاية تُنسب إلى صاحبها، بحيث يُعد هتكها هتكا لحرمة صاحب القبر وتعظيمها تعظيما له، ومن هنا لزم تعظيمها وحرُم هتكها، وأما قبل أن تنتسب لصاحبها بالنحو المتقدم فلا دليل على حرمة هتكها، بل هي من هذه الجهة كباقي الأراضي، والسيرة قائمة على التعامل معها كغيرها.

ثم إن حرمة التنجيس إنما هي في صورة استلزامه الهتك، وكذا بالنسبة إلى وجوب الإزالة، وأما إذا لم تستسلزم الهتك فلا دليل على الوجوب.

بقي أن نشير إلى مبحث مهم أشار له الشيخ الصيمري(ره) في غاية المرام، حيث قال: (والمحترم من التربة الذي لا يجوز تقريب النجاسة منه هو ما أُخذ من الضريح أو من خارج ووُضِع على الضريح المقدس، أما ما أُخذ من خارج ولم يوضع على الضريح فإنه لم يثبت له الحرمة، إلا أن يأخذه بالدعاء المرسوم ويختم عليه فيثبت له الحرمة حينئذ)(2).

وذكر الشهيد الثاني(ره) في شرح اللمعة(3) ما يقرب من هذا المعنى، هذا والظاهر أن مقصود الصيمري بقوله:(أو من الخارج) هو ما أُخذ من خارج الضريح المقدس من المناطق المجاورة له، لا أنه يقصد ما أُخذ حتى من المناطق الأخرى التي هي خارج كربلاء ثم وضع بعد ذلك على الضريح المقدس، وهذا المعنى هو الذي يظهر أيضا من عبارة صاحب العروة التي ذكرناها سابقا، إلا أن في عبائر البعض ما يشير إلى المعنى الثاني، حيث قال: بأنه لو أُخذ التراب من مكان آخر، وأُتي به إلى كربلاء، ووضع على الضريح المقدس بقصد التبرك، للحقته الأحكام المذكورة من حرمة التنجيس والهتك.

هذا ما ذكراه، إلا أنه لم يتضح الوجه في إناطة الإحترام بوضع التربة على القبر إذا كانت مأخوذة من خارجه، أو إناطته بأخذها بالدعاء والختم المذكورين في بعض الروايات؛ إذ أن تمام المناط في لزوم الاحترام وحرمة الهتك –كما مر سابقا- هو انتساب هذه التربة إلى صاحب القبر بحيث يعد هتكها هتكا له، وتعظيمها تعظيما له، وهذا لا يتوقف على وضعها على القبر، ولا على أخذها بالدعاء والختم كما هو واضح، وإنما يتوقف على صدق الانتساب ليس إلا، وهو أمر عرفي، ولم يظهر من النصوص أن الإلتزام بالآداب الخاصة كالدعاء والختم على التربة يولّد لها حالة خاصة تكون منشأ لتلك الأحكام الشرعية، نعم لو توقف صدق الإنتساب عرفا على وضع التربة على القبر أو الإتيان بالآداب الخاصة لتم ما ذكراه.

وعلى هذا فلا فرق في حرمة التنجيس بين التراب المأخوذ من نفس القبور المقدسة، وبين غيره مما أخذ من البقاع المجاورة لها مادام هذا التراب منتسبا إلى تلك النفوس الطاهرة على النحو المذكور.

2- خلط التربة الحسينية بحنوط الميت:

قال السيد اليزدي (قده) في العروة الوثقى عند حديثه عن تحنيط الميت: «مسألة 9 : يستحب خلط الكافور بشيء من تربة قبر الحسين(ع) لكن لا يمسح به المواضع المنافية للإحترام»(4).

ويدل على هذا الحكم ما ورد في مكاتبة الحميري قال: «كتبت إلى الفقيه(ع) أسأله عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره، هل يجوز ذلك أم لا ؟ فأجاب - وقرأت التوقيع ومنه نسخت - : يوضع مع الميت في قبره، ويخلط بحنوطه إن شاء الله»(5).

وواضح أن المقصود بطين القبر هنا هو طين قبر الحسين، لأنه المعهود لدى الشيعة عند الإطلاق، وهو في غاية الوضوح لمن تتبع الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة(ع).

والرواية صحيحة كما هو واضح، والتوقف في سندها من جهة محمد بن أحمد بن داود القمي - لعدم ورود توثيق صريح له- في غير محله، فإن ما ورد فيه من المدح لا يقصر عن التوثيق، بل ويدل على جلالة قدره وعظم شأنه أيضا.

هذا بالنسبة إلى أصل استحباب خلط التربة الحسينية بالكافور، وأما عدم المسح به على المواضع المنافية لاحترامها كإبهامي الرجلين أو العورة، فهو واضح بعد ما تقدم من لزوم تعظيمها وحرمة هتكها.

والظاهر من النص أن المقصود هنا هو خصوص تراب القبر وما يقرب منه على وجه يلحق به عرفا، نعم ورد في بعض الروايات أن طين قبر الحسين يؤخذ ولو من على عدة أميال أو فراسخ(6)، إلا أن جل هذه الروايات قابلة للنقاش سندا ودلالة، نعم سيأتي في مبحث الإستشفاء بالتربة أن هذه الأحكام تثبت للتربة المحيطة بالقبر إلى مسافة خمسة وعشرين ذراعا من جوانبه الأربعة، وأما ما زاد على هذا المقدار فلم يثبت بدليل معتبر، وعليه فلا يُعلم شمول هذا الإستحباب للتربة الحسينية التي تؤخذ من كربلاء في هذه الأعصار وتنقل إلى البلدان المختلفة لأجل السجود عليها في الصلاة، نعم لا بأس باستعمالها رجاءً، خصوصا بالنظر إلى الروايات المشار إليها والتي تذكر الأميال والفراسخ، وهذا الكلام جارٍ بالنسبة إلى أكثر الأقسام الآتية، فلا نحتاج للإعادة.

3- الكتابة بالتربة الحسينية على كفن الميت:

قال الشهيد الأول(قده) في الدروس عند كلامه عن استحباب وضع الجريدتين مع الميت «ويستحب جريدتان من النخل... ويكتب عليها وعلى القميص والإزار والحبرة واللفافة والعمامة بتربة الحسين(ع) اسمه، وأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا (ص)رسول الله، وزاد الشيخ وأسماء الأئمة(عليهم السلام)»(7) وذكر مثله في العروة(8).

والكلام هنا في عدة نقاط:

أ- أصل استحباب الكتابة على الكفن، وما الذي يكتب؟ هل خصوص الشهادة الأولى أو الشهادتين معا؟ وهل يلحق بهما الإقرار بالأئمة (ع) أيضا ؟

وهذا خارج عن محل كلامنا، إلا أن أكثر الفقهاء ذكروا استحباب كتابة الشهادتين والإقرار بالأئمة إما على وجه الإستحباب، أو برجاء المطلوبية.

ب- هذا الإستحباب هل يختص بالكفن أم يشمل الجريدتين أيضا؟ وأي القطع هي التي يُكتب عليها، هل هي قطعة معينة بخصوصها، أم جميع قطع الكفن؟

وهذا أيضا خارج عن محل كلامنا، وقد اختلفت فيه عبائر الفقهاء أيضا.

ج- كون الكتابة بالتربة الحسينية، وهذا قد ذكره الكثير من الفقهاء المتقدمين، وإن قلّت الإشارة له في عبائر متأخري المتأخرين والمعاصرين.

وقد وردت فيه رواية في كتاب الاحتجاج للطبرسي، عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري «عن صاحب الزمان(عج)، أنه كتب إليه: قد روي لنا عن الصادق (ع) أنه كتب على إزار إسماعيل ابنه: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله، فهل يجوز لنا أن نكتب مثل ذلك بطين القبر أم غيره؟ فأجاب: يجوز ذلك، والحمد لله»(9).

والمقصود بطين القبر هنا طين قبر الحسين(ع) كما تقدمت الإشارة سابقا، إلا أنها لا تدل على أكثر من الجواز، ولا تثبت استحبابا على ما يبدو، كما أنها ضعيفة لجهالة سند الطبرسي إلى الحميري، ولعله لهذا قلّت الإشارة له في عبائر متأخري المتأخرين والمعاصرين، نعم قد يستفاد عموم الإستحباب من المكاتبة الأولى التي تقدم تصحيح سندها حيث ورد فيها «يوضع مع الميت في قبره»(10)، وهي صريحة في استحباب وضعها مع الميت في قبره ومن غير تعيين لكيفية خاصة، فتشمل الكتابة بها على الكفن فإنها نحو من الوضع مع الميت، إلا أنها لا تثبت استحباب الكتابة بها بعنوان كونها كتابة، نعم يمكن الكتابة بها رجاءً أو بعنوان الوضع مع الميت.

د- بقي أن نشير إلى أن جملة من الفقهاء أشاروا إلى أنه ينبغي أن تبلّ التربة بالماء، ولعل أول من تعرض لذلك هو الشيخ المفيد(11)، وتبعه بعض من جاء بعده(12)، وقد علله المحقق الكركي بقوله:«لتكون الكتابة مؤثرة حملا على المعهود»(13).

وقد يقال بعدم اشتراط أن تكون الكتابة مؤثرة، لعدم الدليل، ولما ذكره الشيخ في المصباح حيث قال «ويكتب ذلك بتربة الحسين أو بالإصبع ولا يكتب بالسواد»(14)، فقد يقال بأنه يرى كفاية الكتابة بالتربة وإن لم تكن مؤثرة، لأنه عطف عليها الكتابة بالإصبع، ومن المعلوم أنها غير مؤثرة، فظاهر كلامه أن الكتابة تصدق وإن لم يبق لها أثر.

وجوابه واضح؛ إذ لم يدع أحد بأن الكتابة لا تصدق إن لم تكن مؤثرة، ولكن لا شك ولا ريب في أن المنصرف عند إطلاق اللفظ هو خصوص المؤثرة، وأما الكتابة غير المؤثرة فهي فرد خفي غير معهود لا يحمل النص عليه، مضافا إلى أن الدليل في المسألة إن كان هو رواية الإحتجاج المتقدمة فقد جاء فيها عنوان (طين القبر) ومن المعلوم أن الطين هو الممزوج بالماء، دون الجاف المعبر عنه بالمدر، ودون التراب الخالص، وإن كان الدليل هو رواية التهذيب فقد دلت على عنوان (الوضع مع الميت) وهو لا يتحقق إذا لم تكن الكتابة مؤثرة، إلا بمقدار ما قد يتساقط على الكفن من ذرات، مما لا يصدق عليه اسم الطين الوارد في هذه الصحيحة أيضا، فعلى كلا الاحتمالين لابد أن تكون الكتابة مؤثرة.

والكلام عن موضع أخذ التربة هو عين ما تقدم في المبحث السابق.

4- وضع التربة الحسينية مع الميت:

قال السيد اليزدي (قده) في العروة الوثقى في مستحبات الدفن: «الثاني عشر: جعل مقدار لبنة من تربة الحسين(ع) تلقاء وجهه، بحيث لا تصل إليها النجاسة بعد الانفجار»(15)

وهذا الاستحباب مشهور في فتاواهم، ويدل عليه نفس مكاتبة الحميري المتقدمة، حيث ورد فيها «توضع مع الميت في قبره»، ومن الواضح أن السؤال والجواب لم يكن عن إباحة الوضع، وإنما هو عن وجود الرجحان في هذا الوضع وعدمه، ويدل على ذلك نفس جواب الإمام(ع) حيث قال: «يوضع مع الميت في قبره، ويخلط بحنوطه» إذ من الواضح أن عطف (الخلط بالحنوط) على (الوضع مع الميت) يدفع احتمال أن يكون الكلام عن أصل الإباحة، إذ لو كان الكلام عن الإباحة لم يكن هناك معنى للعطف المذكور، فالكلام عن وجود الرجحان في ذلك ليس إلا.

كما يمكن تأييد هذا الحكم بما نقله العلامة في منتهى المطلب حيث قال: «روي أن امرأة كانت تزني وتضع أولادها فتحرقهم بالنار خوفا من أهلها، ولم يعلم به غير أمها، فلما ماتت دفنت فانكشف التراب عنها ولم تقبلها الأرض، فنقلت عن ذلك الموضع إلى غيره، فجرى لها ذلك، فجاء أهلها إلى الصادق(ع) وحكوا له القصة، فقال لأمها: ما كانت تصنع هذه في حياتها من المعاصي؟ فأخبرته بباطن أمرها. فقال(ع) : إن الأرض لا تقبل هذه لأنها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله، اجعلوا في قبرها شيئا من تربة الحسين(ع). ففعل ذلك بها فسترها الله تعالى»(16).

كما يؤيده ما ورد من أنها أمان من كل خوف، كما في رواية الحارث بن مغيرة النصري عن الصادق (ع) «قال: قلت لأبي عبد الله (ع) : إني رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواء إلا تداويت به ؟ فقال : وأين أنت عن طين قبر الحسين (ع) ؟ فإن فيه الشفاء من كل داء، والأمن من كل خوف، فقل إذا أخذته: اللهم إني أسألك بحق هذه الطينة... قلت: قد عرفت الشفاء من كل داء، فكيف الأمان من كل خوف؟ فقال: إذا خفت سلطانا أو غير ذلك فلا تخرج من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين(ع) وقل إذا أخذته: اللهم إن هذه طين قبر الحسين وليك وابن وليك، أخذتها حرزا لما أخاف ولما لا أخاف، فإنه قد يرد عليك ما لا تخاف»(17).

ومثلها رواية زيد الشحام عن الصادق (ع) : «إن الله جعل تربة الحسين (ع) شفاء من كل داء وأمانا من كل خوف»(18)

وحيث أن أهوال القبر مما يخاف منه كل أحد، فتشمله الرواية بإطلاقها.

وأما جعلها تلقاء وجهه فقد يستفاد ذلك مما أورده الشيخ في مصباح المتهجد «عن جعفر بن عيسى أنه سمع أبا الحسن (ع) يقول : ما على أحدكم إذا دفن الميت ووسده التراب أن يضع مقابل وجهه لبنة من الطين، ولا يضعها تحت رأسه»(19)، ومن الواضح أن المقصود هنا هو طين قبر الحسين(ع) لأنه هو المعهود للتبرك، وقد أورده الشيخ في مصباحه في ضمن الأحاديث الخاصة بتربة الحسين.

وأما جعل التربة في موضع لا تصيبها النجاسة فهو وإن كان النص خاليا منه، إلا أنه بمثابة من الوضوح بعد ما تقدم من لزوم تعظيمها وحرمة هتكها على ما تقدم بيانه سابقا.

وقد تقدم الحديث في آخر المبحث الثاني عن مواضع أخذ التربة الحسينية، والكلام هنا هو عين ما تقدم هناك فلا نعيد.

5- السجود على التربة الحسينية:

قال السيد اليزدي (قده) في العروة الوثقى في باب مكان المصلي: «مسألة 26: السجود على الأرض أفضل من النبات والقرطاس، ولا يبعد كون التراب أفضل من الحجر، وأفضل من الجميع التربة الحسينية فإنها تخرق الحجب السبع، وتستنير إلى الأرضين السبع»(20).

لا نتكلم هنا عن لزوم السجود على الأرض أو ما أنبتت، فإنه خارج عن بحثنا هذا وقد تعرض له الفقهاء مفصلا في بحوثهم الفقهية، وكلامنا هنا إنما هو عن خصوص استحباب السجود على التربة الحسينية وتفضيلها على غيرها، وهذا الحكم أفتى به الشيخ الصدوق في الفقيه، وأفتى به أكثر المتأخرين، وجرت عليه سيرة الشيعة منذ القِدم، ويمكن الإستدلال على الحكم بنحوين من الإستدلال:

الأول: الروايات الخاصة التي نصت على هذا الحكم، وهي أربع روايات:

أ- ما أورده الشيخ في مصباح المتهجد، «عن معاوية بن عمار قال: كان لأبي عبد الله(ع) خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله(ع)، فكان إذا حضرته الصلاة صبه على سجادته وسجد عليه، ثم قال(ع) : إن السجود على تربة أبي عبد الله(ع) يخرق الحجب السبع»(21).

ب- ما رواه الحسن بن محمد الديلمي في إرشاد القلوب، قال «كان الصادق(ع) لا يسجد إلا على تربة الحسين (ع) تذللا لله واستكانة إليه»(22).

ج- ما رواه الصدوق قال «قال الصادق(ع) : السجود على طين قبر الحسين(ع) ينور إلى الأرضين السبعة، ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين(ع) كتب مسبحاً وإن لم يسبح بها»(23)

د- ما رواه في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن صاحب الزمان(ع) «أنه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر هل فيه فضل؟ فأجاب (ع) : يجوز ذلك، وفيه الفضل»(24)

ورغم إمكانية المناقشة في سند هذه الروايات الأربع من جهة الإرسال، إلا أن الرواية الرابعة نقلها الشيخ الطبرسي في الاحتجاج في ضمن رسالة طويلة تحتوي على مجموعة مسائل أرسلها الحميري إلى الإمام صاحب الزمان # وقد أجاب عنها الإمام، ورغم أن الشيخ الطبرسي – وكما هي عادته في هذا الكتاب- لم يذكر هنا سنده إلى الحميري إلا أن الشيخ الطوسي في كتاب التهذيب أورد عدة مقاطع من هذه الرسالة بسند معتبر، وهذا وإن لم يكن كافيا للحكم بصحة هذا المقطع بخصوصه، إلا أنه يعطيه نوعا من المزية كما لا يخفى.

الثاني: وهو مركب من مقدمتين:

المقدمة الأولى: لا شك في أفضلية السجود على الأرض، وأنها تُقدم على غيرها كما في النصوص الصحيحة مثل صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبدالله(ع) في حديث قال: «السجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عز وجل»(25).

المقدمة الثانية: بعد ثبوت استحباب السجود على مطلق الأرض نقول: لا شك في تفاوت بقاع الأرض من حيث الفضل، وأنها ليست على حد سواء، وقد دلت الروايات على فضل تربة كربلاء، وتميزها عن بقية الأراضي والبقاع، وهي روايات كثيرة أشرنا لبعضها في ما سبق وسيأتي التعرض لبعضها ضمن النقاط التالية، وبعضها روايات معتبرة.

فيستفاد استحباب السجود على تربة كربلاء من نفس تلك الروايات الدالة على استحباب السجود على الأرض؛ وذلك لأنها من خير بقاع الأرض كما دلت النصوص.

والكلام بالنسبة إلى محل أخذ التربة هو عين ما تقدم في المبحث الثاني، إلا أنه قد يقال هنا بإمكانية التوسع عن مقدار الخمسة والعشرين ذراعا، لأن التعبير الوارد في بعض الروايات هو (السجود على تربة الحسين)، كما أن جملة من الروايات تثبت الفضيلة لتربة كربلاء ولو كانت بعيدة عن القبر.

6- التسبيح بالتربة الحسينية:

قال السيد اليزدي (قده) في العروة الوثقى في فصل تعقيب الصلاة عند حديثه عن استحباب تسبيح فاطمة (ع)، قال: «مسألة 19: يستحب أن تكون السبحة بطين قبر الحسين صلوات الله عليه، وفي الخبر أنها تسبح إذا كانت بيد الرجل من غير أن يسبح، ويكتب له ذلك التسبيح وإن كان غافلا»(26)

وقد وردت روايات كثيرة تؤيد هذا المضمون، نذكر هنا جملة منها:

أ- ما رواه الصدوق عن الصادق (ع) : «ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين(ع) كتب مسبحاً وإن لم يسبح بها»(27).

ب- ما رواه الشيخ في مصباح المتهجد، قال «وروي عن الصادق(ع) أن من أدار الحجر من تربة الحسين(ع) فاستغفر به مرة واحدة كتب الله له سبعين مرة وإن أمسك السبحة بيده ولم يسبح بها ففي كل حبة منها سبع مرات»(28).

ج- ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري قال: «كتبت إلى الفقيه (ع) أسأله هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر؟ وهل فيه فضل؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت: تسبح به، فما في شيء من السبح أفضل منه، ومن فضله أن المسبح ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له ذلك التسبيح»(29).

وهذه الرواية صحيحة السند، والمقصود بالفقيه هنا هو صاحب الزمان (أرواحنا فداه).

د- ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسن ابن علي بن شعيب يرفعه إلى بعض أصحاب أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) قال : «دخلت إليه قال: لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلي عليها، وخاتم يتختم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر أبي عبد الله(ع) فيها ثلاث وثلاثون حبة متى قلبها ذاكرا لله كتب الله له بكل حبة أربعين حسنة، وإذا قلبها ساهيا يعبث بها كتب الله له عشرون حسنة أيضا»(30).

7- الاستشفاء بالتربة الحسينية:

من المعروف أن الفقهاء (رضوان الله عليهم) يفتون بحرمة أكل الطين، لقيام الأدلة على حرمته، إلا أنهم مع ذلك يستثنون طين قبر الحسين(ع)، ونحن هنا نستعرض ما أورده السيد أبو الحسن الأصفهاني(قده) في كتاب وسيلة النجاة(31)، حيث أورد بضع مسائل تتعلق بهذا الموضوع، فبعد أن ذكر حرمة أكل الطين قال:

مسألة 9: يستثنى من الطين طين قبر الإمام الحسين (ع) للاستشفاء، فإن في تربته المقدسة الشفاء من كل داء، وإنها من الأدوية المفردة، وإنها لا تمر بداء إلا هضمته. ولا يجوز أكلها لغير الاستشفاء، ولا أكل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة، ولا يلحق به طين غير قبره حتى قبر النبي (ص) والأئمة (ع) على الأحوط لو لم يكن أقوى، نعم لا بأس بان يمزج بماء أو شربة والتبرك والاستشفاء بذلك الماء وتلك الشربة.

مسألة 10: لأخذ التربة المقدسة وتناولها عند الحاجة آداب وأدعية مذكورة في محالها، خصوصا في كتب المزار ولا سيما مزار بحار الأنوار، لكن الظاهر أنها كلها شروط كمال لسرعة تأثيرها لا أنها شرط لجواز تناولها.

مسألة 11: القدر المتيقن من محل أخذ التربة هو القبر الشريف وما يقرب منه على وجه يلحق به عرفا، ولعله كذلك الحائر المقدس بأجمعه. لكن في بعض الأخبار يؤخذ طين قبر الحسين(ع) من عند القبر على سبعين ذراعا، وفي بعضها طين قبر الحسين (ع) فيه شفاء وإن أخذ على رأس ميل، بل وفي بعضها أنه يستشفى مما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، بل وفي بعضها على عشرة أميال، وفي بعضها فرسخ في فرسخ، بل وروي إلى أربعة فراسخ. ولعل الاختلاف من جهة تفاوت مراتبها في الفضل فكل ما قرب إلى القبر الشريف كان أفضل، والأحوط الاقتصار على ما حول القبر إلى سبعين ذراعا، وفيما زاد على ذلك أن تستعمل ممزوجا بماء، أو شربة على نحو لا يصدق عليه الطين ويستشفى به رجاء.

مسألة 12: تناول التربة المقدسة للإستشفاء، إما بازدرادها وابتلاعها، وإما بحلها في الماء وشربه، أو بأن يمزجها بشربة ويشربها بقصد التبرك والشفاء.

وللتعليق على كلامه نعقد الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: في أصل استثناء طين قبر الحسين (ع).

وهو متسالم عليه بين الأصحاب، وبمضمونه روايات مستفيضة، نذكر بعضا منها:

1- عن أبي يحيى الواسطي عن رجل قال: قال أبو عبد الله(ع) : «الطين حرام كله كلحم الخنزير ومن أكله ثم مات فيه لم أصل عليه، إلا طين القبر فإن فيه شفاء من كل داء، ومن أكله بشهوة لم يكن له فيه شفاء»(32).

2 - عن سعد بن سعد قال: «سألت أبا الحسن(ع) عن الطين؟ فقال: أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير إلا طين الحائر، فإن فيه شفاء من كل داء وأمنا من كل خوف»(33).

3 -وروى سماعة بن مهران عن أبي عبد الله(ع) قال : «أكل الطين حرام على بنى آدم ما خلا طين قبر الحسين(ع) من أكله من وجع شفاه الله»(34).

4 -عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: «من أكل من طين قبر الحسين(ع) غير مستشف به فكأنما أكل من لحومنا»(35).

5- علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أحدهما ‘ قال: «إن الله تعالى خلق آدم من الطين فحرم الطين على ولده، قال: فقلت: ما تقول في طين قبر الحسين بن علي(ع) ؟ فقال: يحرم على الناس أكل لحومهم ويحل لهم أكل لحومنا؟ ولكن اليسير منه مثل الحمصة»(36).

6- وروي: «أن رجلا سأل الصادق(ع) فقال: إني سمعتك تقول: أن تربة الحسين(ع) من الأدوية المفردة، وأنها لا تمر بداء إلا هضمته. فقال: قد قلت ذلك فما بالك؟ قلت: إني تناولتها فما انتفعت بها. قال: أما أن لها دعاء فمن تناولها ولم يدع به واستعملها لم يكد ينتفع بها. قال: فقال له: ما يقول إذا تناولها؟ قال تقبلها قبل كل شيء وتضعها على عينيك، ولا تناول منها أكثر من حمصة، فإن تناول منها أكثر فكأنما أكل من لحومنا ودمائنا...»(37).

7- وعن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (ع) قال: «لو أن مريضا من المؤمنين يعرف حق أبي عبد الله (ع) وحرمته وولايته أخذ من طين قبره مثل رأس أنملة كان له دواء»(38).

الوقفة الثانية: في عدم جواز أكلها لغير الاستشفاء:

وذلك لأن مقتضى النصوص العامة هو حرمة أكل الطين، وإنما رفعنا يدنا عنه في مورد الاستشفاء بطين قبر الحسين(ع) للتسالم على استثنائه واستفاضة الروايات به، فيبقى أكله لغير الاستشفاء مشمولا للنصوص المانعة، سواء كان الأكل بقصد التبرك أم لا، وقد نصت بعض الروايات أيضا على حرمته لغير الإستشفاء، كما في رواية حنان بن سدير المتقدمة.

الوقفة الثالثة: لا يجوز أكل أكثر من مقدار الحمصة:

ودليله واضح أيضا، إذ أن أكله خلاف مقتضى النصوص العامة، فيقتصر فيه على القدر المتيقن وهو مقدار الحمصة، لورود تقييده بهذا المقدار في بعض النصوص المتقدمة(39)، كما ورد هذا التقييد في بعض الفتاوى أيضا(40). فما زاد عن هذا المقدار لا يعلم خروجه عن النصوص العامة الناهية عن أكل الطين.

الوقفة الرابعة: هذا الحكم لا يشمل طين قبور بقية المعصومين(ع) :

وذلك لأن الاستثناء الوارد في الروايات وفتاوى الأصحاب، هو خصوص طين قبر الحسين(ع)، فيبقى غيره تحت عموم النهي، فلا يجوز أكله، نعم هنا رواية أوردها ابن قولويه في كامل الزيارات عن أبي حمزة الثمالي «عن أبي عبد الله(ع) في حديث أنه سُئل عن طين الحائر هل فيه شيء من الشفاء؟ فقال يستشفى ما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، وكذلك قبر جدي رسول الله(ص) وكذا طين قبر الحسن وعلي ومحمد فخذ منها فإنها شفاء من كل داء وسقم وجنة مما تخاف ولا يعدلها شيء من الأشياء التي يستشفى بها إلا الدعاء وإنما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها وقلة اليقين لمن يعالج بها وذكر الحديث - إلى أن قال : - ولقد بلغني أن بعض من يأخذ من التربة شيئا يستخف به حتى أن بعضهم يضعها في مخلاة البغل والحمار وفي وعاء الطعام والخرج فكيف يستشفى به من هذا حاله عنده؟..»(41). وهذا الحديث مخالف لغيره من الأحاديث الكثيرة التي حصرت الاستثناء بطين قبر الحسين(ع) وقد حُمل هذا على الاستشفاء بغير الأكل، إذ لا إشكال في جواز الاستشفاء بما يؤخذ من قبورهم بمثل التمسح والحمل ونحوه، بل ولا إشكال في مزجه بالماء بحيث يستهلك فيه ويخرج عن عنوان الطين، إذ لا تشمله أدلة تحريم الطين حينئذ.

الوقفة الخامسة: في جواز أكلها وإن لم يأتِ بالأدعية الخاصة:

وردت في جملة من النصوص آداب خاصة لكيفية أخذ التربة وتناولها أيضا، وقد علل في بعض الروايات سبب عدم تأثيرها بعدم مراعاة هذه الآداب الخاصة، هذا ولكن المعروف بين الأصحاب الذي لا يكاد يخالفه أحد هو أن جواز الأكل لا يتوقف على الإتيان بهذه الآداب، فهي ليست سوى شرط كمال في المقام، خصوصا وأن جملة كبيرة من الروايات هي روايات مطلقة وغير مقيدة بالإتيان بهذه الآداب، بل في بعضها إشارة واضحة إلى أنها شرط كمال كما في الرواية السادسة المتقدمة.

الوقفة السادسة: في مكان أخذ الطين الذي يؤكل:

اختلفت الروايات في تحديد مكان أخذ الطين، وهل يشترط أن يكون من نفس القبر الشريف، أم يكفي أن يكون من الأماكن البعيدة كما تشير إليه بعض الروايات؟ فقد جاء في بعضها أنه يؤخذ من مسافة خمسة وعشرين ذراعا من الأربعة جوانب التي للقبر(42)، وفي بعضها كفاية أخذه ولو على بعد سبعين ذراعا من القبر(43)، وفي بعضها على رأس ميل(44)، أو أربعة أميال(45)، أو عشرة أميال(46)، أو فرسخ في فرسخ(47)، بل وروي إلى خمسة فراسخ(48)، وعلى أي حال فبعد الالتفات إلى أن هذا الحكم تقييد لعمومات المنع من أكل الطين، ولأن أكثر المتقدمين لم يتعرضوا لحيثية المسافة، والروايات مختلفة في المقام، وجلها لا يخلو من إرسال أو ضعف، وعليه فقد يقال بلزوم الاقتصار في جواز الأكل على تراب القبر الشريف أو ما يقرب منه بحيث يلحق به عرفا، لأنه القدر المتيقن الخارج من تحت عمومات المنع من أكل الطين.

هذا ولعل الصحيح إمكان التعدي عن هذا المقدار، وذلك بأحد توجيهين:

التوجيه الأول: التمسك بما ورد في بعض الروايات من التعبير بطين الحائر، وهي ما رواه ابن أبي عمير عن عمته، قالت:«سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: أن في طين الحائر الذي فيه الحسين(ع) شفاء من كل داء وأمانا من كل خوف»(49). وقد عبرت الرواية بطين الحائر بدلا من طين القبر، والحائر أوسع من القبر كما هو معلوم، وهذه الرواية قد يُناقش في سندها من جهة عيسى بن سليمان، ومن جهة عمة ابن أبي عمير، فإنهما ممن لم يذكرا في كتب الرجال، إلا أنه يمكن توثيق عيسى ابن سليمان لرواية يونس عنه لو قيل بأن الشيخ في عبارة العدة ناظر إلى أصحاب الإجماع حيث قال: (وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به)(50)، ولكن هذا المبنى لم يثبت بالنسبة لغير الثلاثة بأعيانهم، ولم نحرز نظره إلى بقية أصحاب الإجماع، وعليه فلا يتم التوثيق.

ويمكن التغلب على المشكلة عند من يكتفي في تعويض الأسناد بعبارة (أخبرنا بجميع كتبه ورواياته)، وذلك لأن الشيخ قال في فهرسته في حق أبن أبي عمير: (أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعة، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله والحميري، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير)(51). فيقال بأن هذا طريق إلى جميع الروايات التي رواها ابن أبي عمير سواء كانت مذكورة في نفس كتب الشيخ أم في كتب غيره بشرط أن نحرز إطلاع الشيخ على هذه الكتب وروايته لها، فيكون الطريق شامل لما ورد في كامل الزيارات على ما ذهب إليه بعض المحققين، فلو قبلنا بهذا النحو من التعويض لارتفع الإشكال، إلا أن الصحيح عدم تمامية هذا المبنى، فإن الظاهر من عطف الروايات على الكتب في عبارة الفهرست هو إرادة خصوص الروايات الواردة في هذه الكتب، لا إرادة مطلق الروايات التي رواها ابن أبي عمير مما كان منتشرا في الكتب الأخرى، إذ من البعيد أن يكون الشيخ ناظر إلى جميع هذه الروايات على كثرتها وانتشارها، ويؤيده أن نفس الشيخ ناقش في التهذيبين في أسناد بعض الروايات التي هي صحيحة على هذا المبنى من التعويض(52)، وعليه فلم يبق سوى التمسك بدعوى وثاقة جميع رواة كامل الزيارات –كما كان يذهب إليه السيد الخوئي(قده)- للحكم بوثاقة عيسى بن سليمان، ولكنه مبنى ضعيف، لعدم دلالة العبارة على المدعى بالنسبة لغير المشايخ المباشرين، ولهذا عدل عنه السيد الخوئي(قده) في آخر عمره الشريف بالنسبة لغير مشايخ ابن قولويه.

والنتيجة أنه لم يبقَ وجه لتصحيح الرواية من جهة عيسى بن سليمان.

وأما (عمة ابن أبي عمير) فيمكن توثيقها بنفس رواية أبن أبي عمير عنها، إلا أن ذلك يتوقف على صحة الطريق إلى ابن أبي عمير كما لا يخفى، وحيث تقدم عدم صحته فلا مجال لتوثيقها من هذا الطريق، وعلى هذا فلا يتم هذا التوجيه.

التوجيه الثاني: التمسك بما ورد في موثقة إسحاق بن عمار، قال: «سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إن لموضع قبر الحسين بن علي(ع) حرمة معلومة من عرفها واستجار بها أجير، قلت: فصف لي موضعها جعلت فداك، قال: امسح من موضع قبره اليوم، فامسح خمسة وعشرين ذراعا من ناحية رجليه، وخمسة وعشرين ذراعا مما يلي وجهه، وخمسة وعشرين ذراعا من خلفه، وخمسة وعشرين ذراعا من ناحية رأسه، وموضع قبره منذ يوم دفن روضة من رياض الجنة، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زواره إلى السماء،...»(53) فإنها دلت على التحديد بما هو أوسع من القبر الشريف، ورغم أن الرواية أشارت إلى الاستجاره به وأنها توجب الأمان، ولم تشر إلى بقية الأحكام الأخرى كالاستشفاء وغيره، إلا أنه لا ينبغي الريب في أن الإمام كان بصدد تحديد المكان الخاص الذي تثبت له كافة الأحكام الواردة في تربة كربلاء، ويفهم ذلك من قوله في صدر الرواية (إن لموضع قبر الحسين) فهذا النص حاكم على النصوص الأخرى التي عبرت ب(طين القبر)، إذ أنه هنا وسع من مفهوم القبر كما فعلت جملة من النصوص الأخرى التي ذكرت الفراسخ أو الأميال، ويؤيده ما ورد في جملة من الروايات من عطف الأمان على الشفاء «فيه شفاء من كل داء، وأمنا من كل خوف»(54). والظاهر تمامية هذا التوجيه الثاني، وعليه فلا مانع من القول بالتوسعة المذكورة، فيقال بجواز أخذ الطين من مسافة خمسة وعشرين ذراعا من القبر الشريف من جهاته الأربع، وأما ما زاد على ذلك فيبقى تحت عمومات المنع عن أكل الطين على ما تقدم بيانه.

ومما تقدم يتضح الحال في التربة الحسينية التي تؤخذ من كربلاء في هذه الأعصار وتنقل إلى البلدان المختلفة لأجل السجود عليها في الصلاة، فمن المعلوم أنها ليست من طين القبر الشريف، كما أنها لا تؤخذ من المسافة المشار إليها، بل تؤخذ من البقاع البعيدة عنه، وعليه فلا تكون مستثناة من حرمة الأكل، نعم يجوز أن تمزج في الماء ونحوه على وجه تكون مستهلكة فيه، فتشرب معه وهذا لا يعد أكلا للطين كما هو واضح.

الوقفة السابعة: كيفية التناول:

الظاهر عدم وجود كيفية مخصوصة لتناول التربة- أكلها- الحسينية والاستشفاء بها، إذ أن الروايات خالية عن التعرض لهذا الشرط، نعم ورد في بعضها أن الإمام الصادق(ع) مزجها في ماء وسقاها لبعضهم(55)، وفي روايات أخرى ورد عنوان الأكل(56)، ولكن أكثر الروايات خالية عن التعرض للكيفية، كما أن فتاوى الأصحاب لم تُشر لكيفية خاصة، ولذا أفتى من تعرض لهذه المسألة من المتأخرين أو المعاصرين بجواز أن يكون التناول بالازدراد والابتلاع، أو أن تُحل التربة –تذاب- في الماء أو غيره ويُشرب بقصد التبرك والشفاء.

الوقفة الثامنة: في ذكر جملة من الآداب الواردة في الاستشفاء بالتربة:

هناك روايات كثيرة أشارت إلى آداب الاستشفاء بالتربة الحسينية، وقد أورد الشيخ جعفر بن قولويه قسما من هذه الروايات في كتابه (كامل الزيارات)، كما أورد الشيخ الطوسي قسما آخر في كتاب (مصباح المتهجد)، وأورد أبن المشهدي أيضا روايات أخرى في كتاب (المزار الكبير)، والروايات في هذا الباب كثيرة جدا، ورغم ما أشرنا إليه سابقا من أن هذه الآداب ليست سوى شرط كمال هنا، إذ أن جواز الأكل والاستشفاء غير منوط بها، إلا أنه لا ريب أن ترك هذه الأدعية والإعراض عنها مما لا يليق بالمستشفي الذي يأمل نيل الرحمة الإلهية وبركات هذه التربة الشريفة، فلذا آثرنا أن نذكر بعضا مما ذكره ابن قولويه في (كامل الزيارات) كتتمة أو ملحق لهذا المبحث:

1- حدثني علي بن الحسين، عن علي بن إبراهيم، عن إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، عن عبد الله بن حماد الأنصاري، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: إذا تناول أحدكم من طين قبر الحسين (ع) فليقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمَلَكِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ، وَالرَّسُولِ الَّذِي بَوَّأَهُ، وَالْوَصِيِّ الَّذِي ضُمِّنَ فِيهِ، أَنْ تَجْعَلَهُ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ كَذَا وَكَذَا وَيُسَمِّي ذَلِكَ الدَّاءَ(57 ).

2- حدثني حكيم بن داود، عن سلمة، عن علي بن الريان بن الصلت، عن الحسين بن أسد، عن أحمد بن مصقلة، عن عمه، عن أبي جعفر الموصلي أن أبا جعفر (ع) قال: إذا أخذت طين قبر الحسين فقل: اللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذِهِ التُّرْبَةِ وَبِحَقِّ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهَا والْمَلَكِ الَّذِي كَرَبَهَا وَبِحَقِّ الْوَصِيِّ الَّذِي هُوَ فِيهَا صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْ هَذَا الطِّينَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَ أَمَاناً مِنْ كُلِّ خَوْفٍ(58).

فإن فعل ذلك كان حتما شفاء من كل داء و أمانا من كل خوف.

3- حدثني جعفر بن محمد بن إبراهيم الموسوي، عن عبيد الله بن نهيك، عن سعد بن صالح، عن الحسن بن علي بن أبي المغيرة، عن بعض أصحابنا، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) : إني رجل كثير العلل والأمراض وما تركت دواء إلا وقد تداويت به فقال لي: فأين أنت عن تربة الحسين(ع) فإن فيها الشفاء من كل داء والأمن من كل خوف وقل إذا أخذته: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِهِ الطِّينَةِ، وَبِحَقِّ الْمَلَكِ الَّذِي أَخَذَهَا، وَبِحَقِّ النَّبِيِّ الَّذِي قَبَضَهَا، وَبِحَقِّ الْوَصِيِّ الَّذِي حَلَّ فِيهَا، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَاجْعَلْ لي فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَأَمَاناً مِنْ كُلِّ خَوْفٍ.

قال: ثم قال (ع) : إن الملك الذي أخذها جبرائيل(ع) وأراها النبي (ص) فقال: هذه تربة ابنك هذا تقتله أمتك من بعدك، والنبي الذي قبضها فهو محمد رسول الله (ص) وأما الوصي الذي حل فيها فهو الحسين بن علي(ع) سيد الشهداء.

 قلت: قد عرفت الشفاء من كل داء، فكيف الأمان من كل خوف؟ قال: إذا خفت سلطان أو غير ذلك، فلا تخرج من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين (ع) وقل إذا أخذته: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذِهِ طِينُ قَبْرِ الْحُسَيْنِ وَلِيِّكَ وَابْنِ وَلِيِّكَ أَخَذْتُهَا حِرْزاً لِمَا أَخَافُ وَلِمَا لا أَخَافُ.

فإنه قد يرد عليك ما لا تخاف.

قال الرجل: فأخذتها كما قال، فصح بدني وكان لي أمانا من كل ما خفت وما لم أخف، كما قال (ع)، فما رأيت بحمد الله بعدها مكروها(59).

4- حدثني أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسين العسكري بالعسكر، قال: حدثنا الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن مروان، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال الصادق (ع) : إذا أردت حمل الطين من قبر الحسين (ع) فاقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين و«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»و «وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» و «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَة القَدْرِ» ويس وآية الكرسي، وتقول:

اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَحَبِيبِكَ وَنَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ وَأَمِينِكَ، وَبِحَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِكَ وَأَخِي رَسُولِكَ، وَبِحَقِّ فَاطِمَةَ بِنْتِ نَبِيِّكَ وَزَوْجَةِ وَلِيِّكَ، وَبِحَقِّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَبِحَقِّ الأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ، وَبِحَقِّ هَذِهِ التُّرْبَةِ، وَبِحَقِّ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهَا، وَبِحَقِّ الْوَصِيِّ الَّذِي حلَّ فِيهَا، وَبِحَقِّ الْجَسَدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْ، وبِحَقِّ السِّبْطِ الَّذي ضَمَّنَت، وَبِحَقِّ جَمِيعِ مَلائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد، وَاجْعَلْ هَذَا الطِّينَ شِفَاءً لِي وَلِمَنْ يَسْتَشْفِي بِهِ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُقْمٍ وَمَرَضٍ وَأَمَاناً مِنْ كُلِّ خَوْفٍ.

اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ اجْعَلْهُ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً وَاسِعاً، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُقْمٍ، وَآفَةٍ وَعَاهَةٍ، وَجَمِيعِ الأَوْجَاعِ كُلِّهَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.

وتقول: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ التُّرْبَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَيْمُونَةِ وَالْمَلَكِ الَّذِي هَبطَ بِهَا وَالْوَصِيِّ الَّذِي هُوَ فِيهَا صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَانْفَعْنِي بِهَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ(60).

5- حدثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبيه، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا أخذت من تربة المظلوم ووضعتها في فيك فقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِهِ التُّرْبَةِ، وَبِحَقِّ الْمَلَكِ الَّذِي قَبَضَهَا، وَالنَّبِيِّ الَّذِي حَضَنَهَا، وَالإمَامِ الَّذِي حَلَّ فِيهَا، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي فِيهِ شِفَاءً نَافِعاً، وَرِزْقاً وَاسِعاً، وَأَمَاناً مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَ دَاءٍ.

فإنه إذا قال ذلك وهب الله له العافية و شفاه(61).

نكتفي بهذا المقدار من الروايات، ونحيل من يطلب المزيد على الكتب الموسعة.

8- تحنيك المولود بالتربة الحسينية:

قال السيد أبو الحسن الأصفهاني(قده) في كتاب وسيلة النجاة في باب أحكام الأولاد: «مسألة 2: يستحب غسل المولود عند وضعه مع الأمن من الضرر، والأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى فإنه عصمة من الشيطان الرجيم، وتحنيكه بماء الفرات وتربة الحسين(ع)، وتسميته بالأسماء المستحسنة...»(62).

وهذا الاستحباب مذكور في عبائر كثير من الأصحاب كالشيخ(63) وابن البراج(64) وابن حمزة(65) وابن إدريس(66) والمحقق(67) والعلامة(68) وغيرهم(69)، وذلك للخبر الذي أورده الشيخ الكليني في كتابه الكافي حيث قال: «وروي: حنكوا أولادكم بماء الفرات، وبتربة قبر الحسين(ع)، فإن لم يكن فبماء السماء»(70)، وللخبر الذي أورده ابن قولويه بسنده إلى الحسين ابن أبي العلاء، قال: «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: حنكوا أولادكم بتربة الحسين(ع) فإنها أمان»(71).

وهنا ثلاث نقاط لابد من التعرض لها:

الأولى: هل التحنيك بماء الفرات وبتربة الحسين(ع) على نحو المستحب الواحد؟ أم على نحو الفعلين المستحبين، فيستحب تحنيك الطفل بكل منهما بعنوانه؟

الذي يظهر من الرواية الأولى أنه مستحب واحد، إلا أن الرواية الثانية خالية من الإشارة إلى ماء الفرات، مما يظهر منه أنه مستحب مستقل، مضافا إلى أن جملة من الروايات ورد فيها التحنيك بماء الفرات من دون ذكر التربة الشريفة(72)، فيبدو منها بأن كلا منهما مستحب مستقل، ولكن على ما يبدو فإن أكثر عبائر الأصحاب ظاهرة في أنه مستحب واحد.

الثانية: متى يؤتى بهذا الاستحباب؟

رغم خلو الروايتين عن تحديد وقت هذا الاستحباب، إلا أنه لا ينبغي الريب في أن وقته حين الولادة أو الفترة القليلة اللاحقة لها، فإن بعض الروايات الواردة في التحنيك بماء الفرات قد صرحت بذلك كما في رواية الكافي«عن أبي جعفر(ع) قال: يُحنك المولود بماء الفرات ويُقام في أذنه»(73) وكذا ما رواه الصدوق عن السيدة نجمة أم الإمام الرضا(ع) أنها قالت: «لما وضعت ابني عليا دخل إلي أبوه موسى بن جعفر(ع) فناولته إياه في خرقة بيضاء، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنكه به، ثم رده إليّ فقال: خذيه فإنه بقية الله في أرضه»(74). وهذا الحكم ذكره الأصحاب تحت أحكام المولود، ففي الكافي (باب ما يفعل بالمولود من التحنيك وغيره إذا ولد)(75) وذكر في ضمنه عدة روايات، وقال الصدوق(باب العقيقة والتحنيك والتسمية والكنى وحلق رأس المولود وثقب أذنيه والختان)(76) ثم قال بعد عدة صفحات: (ويستحب إذا ولد المولود أن يؤذن في أذنه الأيمن ويقام في الأيسر ويحنك بماء الفرات ساعة يولد إن قدر عليه)(77). وقد ورد من طرق العامة أن النبي(ص) كان يحنك الأطفال بالتمر عند ولادتهم(78)، وورد في الكافي «عن أبي عبد الله(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع) حنكوا أولادكم بالتمر هكذا فعل رسول الله(ص) بالحسن والحسين‘ »(79).

الثالثة: الظاهر إن المقصود من التحنيك هو إدخال الشيء إلى أعلى داخل الفم، كما صرح بذلك كثير من الأعلام وعلماء اللغة، قال ابن منظور في لسان العرب: «والحنك هو باطن أعلى الفم من داخل.... والتحنيك أن تمضغ التمر وتدلكه بحنك الصبي داخل فمه»(80).

9- الإفطار على التربة الحسينية يومي الفطر وعاشوراء:

ذكر الشيخ الكليني في كتابه الكافي عن علي بن محمد النوفلي قال: «قلت لأبي الحسن(ع) إني أفطرت يوم الفطر على طين وتمر، فقال لي: جمعت بركة وسنة»(81).

وجاء في الفقه الرضوي: «والذي يستحب الإفطار عليه يوم الفطر البر والتمر، وروي عن العالم(ع) الإفطار على السكر، وروي: أفضل ما يفطر عليه طين قبر الحسين(ع) »(82)

وقال الشيخ في مصباحه: (فإذا كان يوم عاشوراء أمسك عن الطعام والشراب إلى بعد العصر ثم يتناول شيئا من التربة)(83).

فهنا مطلبان:

الأول: جواز بل استحباب الإفطار على التربة الحسينية يوم عيد الفطر.

الثاني: استحباب الإفطار على التربة بعد العصر يوم عاشوراء.

أما بالنسبة للأول – أي الإفطار يوم العيد- فيظهر من الشيخ الصدوق(ره) الإفتاء به، وذلك لما التزم به في أول كتابه من أنه لا ينقل فيه إلا ما يفتي به بينه وبين ربه(84).

وأما بالنسبة للثاني –أي الإفطار عليه يوم عاشوراء- فيظهر من كتاب المصباح بأن الشيخ الطوسي(ره) يفتي به أيضا، إلا أنه عاد وعدل عنه في كتاب النهاية حيث قال: (لا يجوز أكل شيء من الطين على اختلاف أجناسه إلا طين قبر الحسين بن علي‘ فإنه يجوز أن يؤكل منه اليسير للاستشفاء به)(85). حيث حصر الجواز بقصد الاستشفاء دون غيره.

ولكن جل الأصحاب لم يفتوا بجواز الإفطار على التربة في أي من الموردين، بل ندر أن تجد من يفتي بالجواز، والسبب في ذلك واضح؛ إذ أن مستند الحكم منحصر في ما ذكرناه، والمناقشة فيها غير خافية:

أما مرسلة الفقه الرضوي فضعفها واضح، فلا يمكن الاستناد إليها.

وأما ما نقله الشيخ في مصباحه - مضافا إلى عدوله عنه في كتاب النهاية- فلم نعرف مستنده، ولم يُسنده إلى أحد المعصومين(ع).

أما رواية علي بن محمد النوفلي فقد أوردها الشيخ الحر العاملي(ره) في وسائل الشيعة(86) بهذا اللفظ الذي أوردناه، نقلا عن كتاب الكافي، وهي بهذا اللفظ ظاهرة في المدعى، إذ أن المنصرف من لفظ الطين هو طين قبر الحسين(ع) كما نبها عليه سابقا، ولكن في نسخة الكافي المطبوعة ورد «إني أفطرت يوم الفطر على تين وتمرة»، وهذا اللفظ لو صح لما كان في الرواية دلالة على المدّعى، ولعل الصحيح هو ما نقله في الوسائل، بقرينة قوله (بركة وسنة)، وقد نقلها ابن طاووس(ره) عن الشيخ الكليني بنفس اللفظ الذي أورده في الوسائل(87)، كما رواها الصدوق في الفقيه أيضا بسنده عن علي بن محمد النوفلي إلا أنه قال: « إني أفطرت يوم الفطر على طين القبر وتمر»(88)، وعليه فالظاهر خطأ ما ورد في النسخة المطبوعة من الكافي، وهذا اللفظ الذي أورده الصدوق أشد صراحة من لفظ الكافي، إذ يعبر ب(طين القبر) بدلا من التعبير ب(طين).

وعلى أي حال فالرواية من جهة السند ضعيفة لوجود سهل ابن زياد في سند الشيخ الكليني، على أن نفس الراوي أي علي بن محمد النوفلي مجهول، إذ لم يرد في حقه أي توثيق، وهو موجود في سند الكليني والصدوق.

وعليه فهذه النصوص مع ما بها من ضعف، وإعراض الأصحاب عنها، لا تكفي لرفع اليد عن عمومات ما دل على حرمة أكل الطين.

هذا وربما أمكن حمل النصوص –كما فعل البعض- على ما إذا كان مريضا وقصد الاستشفاء بأكلها، ورغم أن النص غير ظاهر في ذلك، إلا أن هذا الحمل أولى من طرح الرواية من رأس.

نعم لا ينبغي الشك في الجواز لو مُزج الطين بماء أو بشراب على نحو يستهلك فيه، لارتفاع الاسم وخروجه بذلك عن موضوع الحرمة كما تقدمت الإشارة إليه فيما سبق، إلا أنه لا يختص بهذين اليومين كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في هذا المبحث، وبه يتم الكلام في ما أردتُ إيراده من أحكام التربة الحسينية على مشرفها الآف التحية والسلام.

«اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَفَاعَةَ الْحُسَيْنِ(ع) يَوْمَ الْوُرُودِ، وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دون الْحُسَيْنِ(ع) »..

 

* الهوامش:

(1) العروة الوثقى 1: 189، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(2) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام 4: 65

(3) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 7: 326.

(4) العروة الوثقى 2: 82، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(5) وسائل الشيعة3: 29. الحديث 3 من الباب 11 من أبواب التكفين.

(6) ستأتي الإشارة إلى هذه الروايات في ضمن المبحث السابع المتعلق بالاستشفاء بالتربة الحسينية.

(7) الدروس الشرعية1: 110.

(8) قال في العروة: والأولى أن يكتب الأدعية المذكورة بتربة قبر الحسين (ع). راجع العروة الوثقى 2: 77، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(9) الاحتجاج2: 489، وراجع وسائل الشيعة3: 53، الحديث3 من الباب29 من أبواب التكفين.

(10) وسائل الشيعة3: 29. الحديث 3 من الباب 11 من أبواب التكفين.

(11) نقله عنه ابن إدريس في (السرائر1: 162).

(12) كابن إدريس في (السرائر1: 162)، والعلامة في (مختلف الشيعة1: 406).

(13) جامع المقاصد1: 396.

(14) مصباح المتهجد : 18.

(15) العروة الوثقى 2: 120، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(16) منتهى المطلب 1: 461.

(17) وسائل الشيعة 14: 524، الحديث 9 من الباب70 من أبواب المزار وما يناسبه.

(18) وسائل الشيعة 14: 522، الحديث 5 من الباب70 من أبواب المزار وما يناسبه.

(19) مصباح المتهجد : 735.

(20) العروة الوثقى 2: 397، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(21) مصباح المتهجد: 677. وراجع وسائل الشيعة5: 366، الحديث3 من الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

(22) إرشاد القلوب: 115. وراجع وسائل الشيعة5: 366، الحديث4 من الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

(23) من لا يحضره الفقيه 1: 174. وراجع وسائل الشيعة5: 365، الحديث1 من الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

(24) الاحتجاج: 489. وراجع وسائل الشيعة5: 366، الحديث2 من الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

(25) من لا يحضره الفقيه 1: 177. وراجع وسائل الشيعة5: 367، الحديث1 من الباب 17 من أبواب ما يسجد عليه.

(26) العروة الوثقى 2: 616، طبعة جامعة المدرسين في قم.

(27) من لا يحضره الفقيه 1: 174. وراجع وسائل الشيعة5: 365، الحديث1 من الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه.

(28) مصباح المتهجد: 735، وراجع وسائل الشيعة 6: 456، الحديث 6 من الباب 16 من أبواب التعقيب وما يناسبه.

(29) تهذيب الأحكام 6: 75، وراجع وسائل الشيعة 14: 536، الحديث 1 من الباب 75 من أبواب المزار وما يناسبه.

(30) تهذيب الأحكام 6: 75، وراجع وسائل الشيعة 14: 536، الحديث 2 من الباب 75 من أبواب المزار وما يناسبه.

(31) أورد هذه المسائل في الجزء الثاني كتاب الأطعمة والأشربة، تحت عنوان «القول في غير الحيوان»

(32) الكافي 6: 265، وراجع وسائل الشيعة24: 226، الحديث1 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(33) الكافي 6: 266، وراجع وسائل الشيعة24: 226، الحديث2 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(34) كامل الزيارات: 286، وراجع وسائل الشيعة24: 228، الحديث4 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(35) مصباح المتهجد: 676، وراجع وسائل الشيعة24: 229، الحديث6 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(36) كامل الزيارات: 285، وراجع وسائل الشيعة14: 528، الحديث1 من الباب 72 من أبواب المزار وما يناسبه.

(37) مصباح المتهجد: 677، وراجع وسائل الشيعة24: 229، الحديث7 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(38) كامل الزيارات: 277، وراجع وسائل الشيعة14: 530، الحديث4 من الباب 72 من أبواب المزار وما يناسبه.

(39) وهما الرواية الخامسة والسادسة حيث ورد فيهما التقييد بمقدار الحمصة، وفي الرواية السابعة إشارة إلى كفاية القليل منه (مثل رأس الأنملة) وهو قريب من مقدار الحمصة.

(40) قال الشيخ في النهاية: 590 (فإنه يجوز أن يؤكل منه اليسير للاستشفاء)، ومثله ابن البراج في كتاب المهذب 2: 429، وابن حمزة في الوسيلة: 363، وابن زهرة في الغنية: 397، وابن إدريس في السرائر 3: 124.

وقيده المحقق في الشرائع3: 224 والمختصر النافع: 245 بمقدار الحمصة، وتبعه على ذلك العلامة في القواعد3: 329 والتحرير2: 161، والشهيد الأول في الدروس3: 14 واللمعة: 230، وتبعهم أكثر من جاء بعدهم.

(41) كامل الزيارات: 280، وراجع وسائل الشيعة24: 228، الحديث3 من الباب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(42) كامل الزيارات : 457. الباب 89 الحديث 4.

(43) كامل الزيارات : 468. الباب 93 الحديث 2.

(44) كامل الزيارات : 467. الباب 92 الحديث 6.

(45) كامل الزيارات : 470. الباب 93 الحديث 5.

(46) تهذيب الأحكام 6: 72.

(47) كامل الزيارات : 456. الباب 89 الحديث 2.

(48) كامل الزيارات : 456. الباب 89 الحديث 3.

(49) كامل الزيارات : 466. الباب 92 الحديث 4.

(50) عدة الأصول 1: 154.

(51) فهرست كتب الشيعة وأصولهم: 405. ترجمة ابن أبي عمير.

(52) فقد ضعف في (التهذيب 9: 393. الحديث 9) سند رواية رواها ابن أبي عمير، لأن في سندها أبا سمينة، فلو كان الطريق الذي ذكره في الفهرست طريق لجميع روايات ابن أبي عمير لما كان هناك معنى لهذا التضعيف، لأن الرواية ستكون صحيحة بالطريق الفهرست.

(53) كامل الزيارات : 457. الباب 89 الحديث 4.

(54) كامل الزيارات : 478. الباب 95 الحديث 2، ومثله في ص473. الباب 93 الحديث 10.

(55) كامل الزيارات : 462. الباب 91 الحديث 7.

(56) كامل الزيارات : 476. الباب 94 الحديث 1.

(57) كامل الزيارات : 469. الباب 93 الحديث 3.

(58) كامل الزيارات : 469. الباب 93 الحديث 4.

(59) كامل الزيارات : 473. الباب 93 الحديث 10.

(60) كامل الزيارات : 474. الباب 93 الحديث 12.

(61) كامل الزيارات : 477. الباب 94 الحديث 3.

(62) وسيلة النجاة، الجزء الثاني، كتاب النكاح، القول في أحكام الولادة وما يلحقها.

(63) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 500.

(64) المهذب 2 : 259.

(65) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315.

(66) السرائر 2: 646.

(67) المختصر النافع: 193.

(68) قواعد الأحكام 3: 97.

(69) كفخر المحققين في إيضاح الفوائد 3: 258، والشهيد الأول في اللمعة الدمشقية: 175، وابن فهد في المهذب البارع 3: 423.

(70) الكافي 6: 24. وراجع وسائل الشيعة 21: 407، الحديث3 من الباب 36 من أبواب أحكام الأولاد.

(71) كامل الزيارات: 466. الباب 92 الحديث 2.

(72) وسائل الشيعة 14: 404- 407، الباب 14 من أبواب المزار وما يناسبه، الأحاديث 2، 7، 10. وراجع وسائل الشيعة 21: 407، الباب 36 من أبواب أحكام الأولاد، الأحاديث 2، 4.

(73) الكافي 6: 24.

(74) وسائل الشيعة 21: 407. الحديث 4 من الباب 36 من أبواب أحكام الأولاد.

(65) الكافي 6: 23.

(76) من لا يحضره الفقيه 3: 484.

(77) من لا يحضره الفقيه 3: 488.

(78) فقد روى البخاري في صحيحه (حدثني إسحق بن نصر حدثنا أبو أسامة قال حدثني بريد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي (ص) فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إلي وكان أكبر ولد أبي موسى) راجع صحيح البخاري 5: 2081.

وروى مسلم حديثا آخر في تحنيك الرسول(ص) لعبد الله ابن الزبير حينما ولد، راجع صحيح مسلم 3: 1690.

ووردت روايات عديدة في بقية صحاحهم تشير إلى ما ذكرناه.

(79) الكافي 6: 24.

(80) لسان العرب 10: 416، مادة (حنك).

(81) الكافي 4: 170. وراجع وسائل الشيعة 7: 445. الحديث1 من الباب 13 من أبواب صلاة العيد.

(82) فقه الرضا: 210.

(83) مصباح المتهجد: 771.

(84) ذكر ذلك في مقدمة كتابه، راجع (من لا يحضره الفقيه 1: 3.)

(85) النهاية في مجرد الفقه والفتوى: 590.

(86) وسائل الشيعة 7: 445. الحديث1 من الباب 13 من أبواب صلاة العيد.

(87) إقبال الأعمال: 281.

(88) من لا يحضره الفقيه 2: 174.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا